الضابط السابع
كون المعنى المقصود ثابتا ثبوتا ظنيا أو قطعيا
إن الغاية من فهم النصوص وتفسيرها هـو إدراك مقاصدها والمصالح الأدلة عليها، ومن المعلوم أن المعاني المرداة من النصوص قد تكون جزئية أو كليه، فالجزئية هـي التي تدرك عن طريق آحاد الأدلة، بخلاف المعاني الكلية لا تدرك إلا بأدلة كثيرة. ولذا كان على الناظر في النصوص ألا يستنبط معنى جزئيا أو كليا إلا من خلال مسالكه وطرقه الدالة عليه.
ومن المعلوم أن الله تعالى أرشد الناس إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وأوضح لهم الطرق الموصلة إلى ذلك، غير أن هـذه المصالح والمفاسد مختلفة في الوضوح والخفاء؛ فمنها ما هـو منصوص عليه بوضوح وصراحة، ومنها ما هـو غير منصوص عليه.
أ - أما المصالح المنصوص عليها فقد تشمل جميع أفعال الإنسان، أو بعضها؛ ومثال ذلك: النصوص الصريحة في الأمر بفعل الخير وترك الفساد، والأمر بالتيسير، والنهي عن الإضرار،
فقوله تعالى: ( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) (الحج:77) ،
وقوله: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185) ،
وقوله تعالى: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) ، [ ص: 152 ] نصوص واضحة الدلالة على أن الحرج مدفوع، وأن المشقة تجلب التسيير، وأن التيسير مقصد شرعي،
وقوله: ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ) (الطلاق:6) ،
وقوله: ( لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ) (البقرة:233) ،
وقوله: ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (البقرة:190) ،
نصوص واضحة الدلالة على أن إلحاق الضرر بالغير والاعتداء عليه مفسدة يجب دفعها، فدل ذلك على أن دفع الضرر مقصد شرعي.
إن جلب الصلاح ودفع الفساد الوارد في هـذه النصوص واضح وصريح، وشامل لجميع أفعال الإنسان؛ لعموم الأمر بالصلاح والنهي عن الفساد.
وقد تأتي النصوص لتدل على نوع معين من المصالح أو المفاسد، لا تشمل جميع أفعال الإنسان، وهي المصالح الجزئية التي تختلف باختلاف الأشخاص ومثالها:
- مصلحة دفع الغبن في ( قوله صلى الله عليه وسلم لرجل يخدع في البيع: إذا بايعت فقل: لا خلابة ) [1] . أي: لا خديعة، فهذه مصلحة خاصة بهذا النوع من الأشخاص الذين يخدعون في البيوع، ولا يتمكنون من دفع الغبن عن طريق النظر والتحري والمراقبة، فسمح لهم الشرع بإعلان ذلك أثناء العقد، فتكون هـذه المصلحة خاصة. [ ص: 153 ] - مصلحة تسعير البضائع والسلع في بعض الأوقات والأحوال، مصلحة جزئية لا تكون مشروعة إلا عند لحوق الضرر بالناس؛ ذلك أن الأصل في المعاملات -ومنها البيوع- حرية التسعير بما يراه صاحب السلعة محققا للمنفعة.
فهذا مثال للمصالح الجزئية الخاصة ببعض الأفراد أو ببعض الأحوال، وهي واضحة وصريحة.
ب - أما المصالح غير المنصوص عليها فتتطلب زيادة التحري والبحث واستقراء النصوص، وما تدل عليه من معان جزئية، للوصول إلى معنى كلي هـو مقصد الشارع؛ ومثاها: مصلحة رواج الطعام في الأسواق، فإن هـذه المصلحة لم يرد فيها نص معين، وإنما استنبطت من مجموع النصوص الدالة على ترويج السلع، وتيسير الحصول عليها في الأسواق، مثل: النهي عن تلقي الركبان، والنهي عن بيع الحاضر للبادي، والنهي عن الاحتكار، والنهي عن بيع الطعام قبل قبضه. فباستقراء هـذه المناهي والبحث عن عللها الجزئية يتبين أن غايتها تفيد معنى كليا، وهو تيسير الحصول على الطعام والسلع لوصولها إلى المحتاج بدون عناء ولا مشقة، فيستخلص الباحث من مجموع ذلك مقصدا كليا؛ وهو رواج الطعام في الأسواق [2] .
ولما كانت المعاني الكلية تحتاج إلى زيادة تأمل ونظر وبحث في أكثر من نص من أجل الوصول إليها وضع العلماء لاستنباطها مسالك، فما حقيقتها؟ وما أنواعها؟ [ ص: 154 ]
مسالك الكشف عن المعنى المقصودة شرعا
تعريف المسالك : هـي (الطرق المبلغة إلى إثبات أعيان المقاصد الشرعية في مختلف التشريعات) [3] .
أنواع المسالك: تنقسم المعاني المقصودة شرعا بحسب درجة الثبوت إلى مرتبتين: قطعية, وظنية [4] . فالمعاني القطعية هـي التي ثبتت بأدلة كثيرة تصل إلى درجة القطع أو القريب من القطع، وهذه هـي كليات القرآن والشريعة التي لم تثبت بآحاد الأدلة، وإنما ثبتت باستقراء أدلة غير منحصرة أو منحصرة ولكنها كثيرة. وأما المعاني الظنية ، فهي التي ثبتت بآحاد الأدلة؛ كالنصوص الدالة على المقاصد الجزئية.
بناء على تمايز درجة ثبوت المعاني هـذا، وما دامت المسالك تبحث عن أدلة ثبوتها؛ لذا يمكن تقسيم المسالك المؤدية إلى إثباتها إلى نوعين: مسالك ظنية، ومسالك قطعية.
النوع الأول المسالك الظنية
وهي الطرق التي يتوصل بها إلى إثبات المعاني الجزئية من خلال آحاد النصوص، وهي [5] : [ ص: 155 ]
المسلك الأول: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي
وحاصل هـذا المسلك أن الأمر لما كان يقتضي طلب الفعل دل ذلك على إيقاع المأمور به مقصود للشارع، وأن عدم إيقاعه مخالف لمقصوده والنهي لما كان يقتضي الكف عن الفعل دل على أن عدم إيقاع المنهي عنه مقصود للشارع، وأن إيقاعه مخالف لمقصوده. فكل من الأمر والنهي واضح الدلالة على المقصود بمجرد ظاهر الصيغة من غير التفات إلى العلة؛ سواء لمن لم يعتبر التعليل كالظاهرية أو لمن يعتبره كالجمهور [6] - فقوله تعالى: ( وأقم الصلاة ) (العنكبوت:45) ،
أمر يفيد إقامة الصلاة، فمن أقامها كان مؤديا للمقصود الشرعي من ظاهر الأمر، ومن تركها كان مخالفا للمقصود. والأمر بإقامتها عام؛ سواء لمن عرف العلة والحكمة من إقامتها أو لم يعرف، فالجميع مأمور بإقامتها.
- وقوله تعالى: ( ولا تبذر تبذيرا ) (الإسراء:26) ،
يفيد الكف عن التبذير، فمن كف عن التبذير كان مؤديا للمقصود الشرعي من ظاهر النهي، ومن لم يتمثل وبذر كان مخالفا للمقصود، والنهي عن التبذير عام؛ سواء لمن عرف العلة والحكمة من النهي، أم لم يعرف ذلك، فالكل مطالب بالكف عن التبذير عند النافين للتعليل وعند المثبتين له.
وقد عبر الشاطبي عن هـذا المسلك في صورة قاعدة، بقوله: (الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها، كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها) [7] . [ ص: 156 ]
واستدل على أن مجرد الأمر يستلزم قصد الإيقاع، ومجرد النهي يستلزم قصد عدم الإيقاع، بأدلة ثلاثية:
أ - إن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك، ومعنى الاقتضاء الطلب، والطلب يستلزم مطلوبا، والقصد لإيقاع ذلك المطلوب، ولا معنى للطلب إلا هـذا.
ب - لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد؛ لعدم إيقاع المأمور به، وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه؛ وبذلك لا يكون الأمر أمرا، ولا النهي نهيا، ولصح انقلاب الأمر نهيا وبالعكس، ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل أو عدمه، فيكون المأمور به أو المنهي عنه مباحا أو مسكوتا عن حكمه، وهذا كله محال.
ج - إن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به وترك المنهي عنه هـو من كلام الساهي والنائم والمجنون، ومن في حكمهم، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق [8] .
فالشاطبي جعل ظاهر الأمر المجرد من غير نظر إلى علة وحكمة يفيد قصد الفعل، وظاهر النهي المجرد من غير نظر إلى علة وحكمة يفيد قصد عدم الفعل. فالأمر والنهي المجردان عن التعليل يدلان بظاهرهما على مقصد [ ص: 157 ] الشارع. كما قيد ظاهر الأمر والنهي بأن يكون كل منهما ابتدائيا وتصريحيا، فما الغرض من هـذين القيدين؟
- أما تقييد الأمر والنهي بالابتدائي فللاحتراز به من الأمر والنهي الذي قصد به غيره؛ ذلك أن الأمر قد يقصد به طلب الفعل قصدا أوليا لذاته، وقد يقصد به طلب الفعل قصدا ثانيا لغيره، وكذلك النهي.
ومثال ذلك: النهي عن البيع في قوله تعالى:
( فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) (الجمعة:9) ،
ليس نهيا؛ لأن الأصل في البيع الإباحة في جميع الأوقات،
لقوله تعالى: ( وأحل الله البيع ) (البقرة:275) ،
لذا وجب حمل النهي عن البيع هـنا لقصد خاص، فهو ممنوع في هـذا الوقت لكونه معطلا عن السعي إلى صلاة الجمعة؛ لذا فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني لا بالقصد الأول [9] .
- أما تقييد الأمر والنهي بالتصريحي فللاحتراز به من الأمر والنهي الضمني غير المصرح به، فإن الأمر يتضمن النهي عن ضده، والنهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده، فالقول بهما يكون باعتبار القصد الثاني لا باعتبار القصد الأول، الذي دل عليه الأمر والنهي التصريحي، وهذه المسألة مختلف فيها عند علماء الأصول؛ أي: هـل الأمر يتضمن النهي عن ضده، والنهي يتضمن الأمر بضده؟ [ ص: 158 ] فالغاية من تقييد ظاهر الأمر؛ ليكون دالا بذاته على قصد الشارع، بأن يرد في صيغة صريحة في الدلالة على طلب الفعل، وكذلك الغاية من تقييد النهي؛ ليكون دالا بذاته على قصد الشارع، بأن يرد في صيغة صريحة في الدلالة على الكف عن الفعل، وعليه فإن الأوامر والنواهي الواردة بصيغ غير صريحة لا تدل بظاهرها على قصد الشارع، بل لا بد من البحث عن عللها للوقوف على ذلك. وكذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي؛ للاحتراز به من الأمر بما لا يتم المأمور إلا به، وهذه المسألة هـي المعبر عنها في علم الأصول بقولهم: ( ما لا يتم الواجب إلا به... ) . فدلالة الأمر والنهي في هـذا على مقصد الشارع متنازع فيه، ومن ثم فهي خارجة عن مضمون هـذا المسلك [10] .
وقد أوضح القرافي الخلاف في هـذه المسألة، فقال: (أجمع المسلمون على أن ما يتوقف الوجوب عليه من سبب أو شرط أو انتفاء لا يجب تحصيله إجماعا، فالسبب كالنصاب يتوقف عليه وجوب الزكاة ولا يجب تحصيله إجماعا، والإقامة فإنه يتوقف عليها وجوب الصلاة، ولا تجب الإقامة لأجله إجماعا، وكالدين يمنع وجوب الزكاة ولا يجب دفعه حتى تجب الزكاة إجماعا، فكل ما يتوقف عليه الوجوب لا يجب تحصيله إجماعا. إنما النزاع فيما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تحقق الوجوب، فقيل: يجب لتوقف الواجب عليه، وقيل: لا يجب؛ لأن الأمر ما اقتضى إلا تحصيل المقصد، أما الوسيلة فلا، ولأنه إذا ترك المقصد؛ كصلاة الجمعة أو الحج فإنه يعاقب عليه، أما المشي إلى الجمعة أو الحج فلم يدل دليل على أنه يعاقب عليه مع عقابه على المقصد، وإذا لم يستحق عقابا عليه لم يكن واجبا؛ لأن استحقاق العقاب من خصائص الوجوب) [11] . [ ص: 159 ] وكأن الشاطبي يريد من هـذه القيود التي قيد بها الأمر والنهي في هـذا المسلك، أن يخلصه من الاحتمالات والظنون الواردة عليه، حتى يتم الحصول على مقاصد قطعية لا شك في قصد الشارع إليها. فهل سلم له ذلك؟ هـذا ما سيتضح في نهاية هـذا المسلك.
الأوامر والنواهي الجارية مجرى الصريح
قد تأتي الأوامر والنواهي دالة على المطلوب الشرعي بالقصد الأول، فتكون في مرتبة الصريح، وهي على ضربين:
الأول: الأوامر والنواهي التي جاءت مجيء الإخبار عن تقرير الحكم؛
كقول الله تعالى: ( كتب عليكم الصيام ) (البقرة:183) ،
وقوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن ) (البقرة:233) ،
وقوله تعالى أيضا: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) (النساء:141) ،
وقوله: ( فكفارته إطعام عشرة مساكين ) (المائدة: 89) ،
فهذا وأمثاله في معنى الأمر والنهي الصريح. [ ص: 160 ]
الثاني: الأوامر الواردة مورد المدح، والنواهي الواردة مورد الذم، والأوامر التي يترتب على فعلها الثواب، والنواهي التي يترتب على تركها العقاب، أو الإخبار بمحبة الله عند الامتثال للأوامر، والبغض والكراهة أو عدم الحب عند ارتكاب النواهي، مثل:
قوله تعالى: ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هـم الصديقون ) (الحديد:19) ،
فالإيمان بالله ورسوله مقصود، وقوله: ( بل أنتم قوم مسرفون ) (الأعراف:81) ،
فالنهي عن الإسراف مقصود، وقوله: ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات ) (النساء :13) ،
فطاعة الله ورسوله مقصود، وقوله: ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا ) (النساء:14) ،
فمعصية الله ورسوله توجب دخول النار، فثبت النهي عنها، وقوله: ( والله يحب المحسنين ) (آل عمران:134) ،
فمحبة الله للمحسنين يقتضي كون الإحسان مأمورا به، وقوله: ( إنه لا يحب المسرفين ) (الأنعام:141) ،
فبغض الله للمسرفين يقضي كون الإسراف مذموما ومنهيا عنه.
فهذا وأمثاله ينزل منزلة الأمر والنهي التصريحي في طلب الفعل المحمود وفي طلب ترك المذموم [12] . [ ص: 161 ] هذه الأمثلة لا تدل على طلب الفعل أو الكف عنه بصيغ الأمر والنهي الصريحة المعهودة، بل تدل عليها بصيغ أخرى غير مباشرة، لكنها في مرتبة الصريح؛ ذلك أن أسلوب القرآن في الأمر والنهي لم يأت على شاكلة واحدة، بل تنوع أسلوبه وعبارته.
وخلاصة هـذا المسلك أن مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي دليل على مقصد الشارع من غير التفات إلى علة. فلننظر في هـذا الطريق، هـل بإمكانه أن يكون دليلا لمعرفة مقصد الشارع؟
نظرة في هـذا المسلك
إن هـذا المسلك يتماشى في الحقيقة مع منهج الظاهرية، الذين يأخذون بالظواهر دون التفات إلى العلل والمصالح، ويجرون النصوص مجرى التعبد المحض من غير تعليل [13] . فلا فرق عندهم بين أمر مجرد من العلة والحكمة، وأمر معلل بهما في وجوب الائتمار، ولا فرق عندهم بين نهي مجرد عن العلة والحكمة، ونهي معلل بهما في وجوب الانتهاء، فالأولى إهمال المسلك؛ لأنه لا يتماشى مع منهج الجمهور القائلين بالتعليل، فلماذا ذكره الشاطبي ضمن رأي الجمهور؟ وقد اعتبر رأيهم في التعليل أرجح، وفي ذلك يقول: (وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عاما، وإن كان غيره أرجح) [14] .
فهو يقر بأن مسلك مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي من غير اعتبار العلل مرجوحا. [ ص: 162 ] وقبل بيان ضعف هـذا المسلك، وأنه مرجوح، لا بد من بيان حجج أصحابه، ثم الرد عليها.
حجج الواقفين مع ظاهر الأمر والنهي:
احتج أصحاب هـذا المسلك بالأدلة الآتية أولا: قالوا بأن المصلحة المقصودة من الأمر والنهي، وإن كانت معلومة في الجملة فإنها مجهولة على التفصيل، فقد تعقل الحكمة من رجم الزاني المحصن؛ وهي: الزجر، لكن لا نعقل لماذا تعين هـذا طريقا للزجر، دون الطرق الأخرى؛ كضرب العنق، أو الجلد حتى الموت، أو الجلد إلى عدد معلوم، أو بذل مال كالكفارات.
وكذلك القول في غير المحصن، حيث تعين جلد مائة وتغريب عام كطريق وحيد للزجر، دون الطرق الأخرى، مثل: الرجم، والقتل، أو زيادة عدد الجلد على المائة، أو نقصانها عنها، إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل. (وإذا لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره، وإذا لم نعقل ذلك -ولا يمكن ذلك للعقول- دل على أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها، وهكذا يجري الحكم في سائر ما يعقل معناه) [15] .
وأما في باب ما لا يعقل معناه: فاحتجوا بأن الوقوف مع الظاهر أولى وأحرى من غير التفات إلى العلل والمصالح المقصودة؛ لأن العبادات غير معقولة المعنى. [ ص: 163 ]
ثانيا: قالوا بأن الوقوف مع ظاهر الأمر والنهي أولى؛ نظرا لتعارض المصالح، كما يتضح من خلال الأمثلة الآتية:
- كثيرا ما يظهر في أول لحظة أن مقصود الأمر والنهي معنى مصلحي، ثم يظهر ما يعارض هـذه المصلحة؛ نص آخر، من أمر ونهي، فثبت إذا أن الوقوف مع ظاهر الأمر والنهي دون نظر إلى المعاني المصلحية أرجح وأسلم.
- ثبت أنه ما من أمر ونهي إلا وفيه معنى تعبدي؛ سواء في العبادات أو في المعاملات، فدل ذلك على أن الوقوف مع الظاهر أولى، ولو من غير معرفة العلل والمصالح [16] .
إن عدم الالتفات إلى العلل والمعاني المصلحية ليس إعراضا عن مقاصد الشارع المعلومة؛ لأن الالتفات إليها مع الإعراض قد يؤدي إلى إلغاء النص، وذلك مثل قوله: ( في أربعين شاة ) [17] . حيث ذهب البعض إلى إخراج القيمة بدل الشاة؛ بالنظر إلى المعنى المصلحي، وهو سد الخلة، الذي يحصل بإخراج القيمة، فأدى ذلك إلى إلغاء إخراج الشاة الوارد في النص [18] .
الرد على اعتبار الظاهر من غير حاجة إلى تعليل
أولا: إن القول بأنه يتعذر إدراك المصالح على التفصيل، فإنه ممكن باستقراء ما ورد في القرآن والسنة، بتتبع موارد الأمر والنهي؛ ذلك أن تنوع [ ص: 164 ] الصيغ في مختلف التراكيب مع الالتفات للقرائن الحالية والمقالية يدل على أعيان المصالح في المأمورات وأعيان المفاسد في المنهيات، فيمكن الوصول إلى معرفة عين المصلحة أو عين المفسدة، ومن ثم إشكال في اعتبار العلل والمصالح بجانب الأوامر والنواهي [19] .
- فالمصلحة المقصودة من قوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة ) (البقرة:43) ،
المحافظة على الصلاة؛ كقوله تعالى: ( والذين هـم على صلاتهم يحافظون ) (المعارج:34) ،
وقوله: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) (البقرة:238) ،
وقوله تعالى: ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) (النساء:103) ،
وغير ذلك من القرائن المحتفة بهذه الأوامر من أفعاله صلى الله عليه وسلم وأفعال صحابته. فالقرائن المقالية والحالية دليل على أن إقامة الصلاة المقصود منها المحافظة عليها والإدامة.
- والمصلحة المقصودة من ( قوله صلى الله عليه وسلم : أكلفوا من العمل ما لكم به طاقة ) [20] . هـي الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع، لا أن المقصود [ ص: 165 ] نفس التقليل من العبادة، أو ترك الدوام على التوجه إليه، وهذا المقصد دل عليه الاستقراء وتتبع النصوص الدالة على أن التشدد في العبادة قد يؤدي إلى مفسدة تركها بالكلية والزهد فيها؛
كقوله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185) ،
وقوله: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج:78) ،
وقوله تعالى: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) ،
وغيرها من النصوص، فثبت من مجموع ذلك أن المراد من النهي الرفق والرحمة، لا أن مقصوده التقليل من الطاعة والعبادة، وهكذا يقال في سائر الأوامر والنواهي [21] .
ثانيا: قد يكون اتباع ظاهر الأمر والنهي مخالفا للمعنى المقصود منهما؛ ذلك أن الأمر يأتي للدلالة على معان كثيرة تصل إلى ستة عشر معنى مجازيا [22] ؛ منها: معنى الإباحة، وهي تقتضي التخيير بين الفعل وتركه، فاتباع مجرد الأمر من غير نظر إلى علته لا يفيد كون الأمر للوجوب أو للإباحة، ومن ثم تتبين ضرورة البحث عن القرائن الحالية والمقالية للمعنى المقصود من الأمر،
فقوله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا ) (المائدة:2) ،
وقوله: ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ) (الجمعة:10) ،
كل منهما أمر، فالحمل على ظاهرهما يدل على ملازمة الاصطياد عند الإحلال، وعلى ملازمة [ ص: 166 ] الانتشار عند انقضاء الصلاة، وهذا غير مقصود، بل المقصود أن سبب المنع من الاصطياد قد زال بالإحلال من الإحرام، وأن سبب المنع من البيع وقت الجمعة قد زال بانقضاء الصلاة [23] .
ثالثا: إن الأحكام معللة بالمصالح، والأوامر والنواهي جزء من هـذه الأحكام، ومعرفة المصلحة المرادة من الأمر، أو المفسدة المرادة من النهي معينة على الطاعة والامتثال وموافقة الشارع فيما أمر ونهى بخلاف إهمال اعتبار مصالح المأمورات ومفاسد المنهيات يجعل حدود العمل بالأمر، وكذا العمل بالنهي غير منضبط ولا محدود، فلا يكون هـناك مرشد إلى مقصد الشارع سوى مجرد الصيغة، وقد لا تكون كافية في تحديد مراد الشارع ومقصوده، ومن ثم قد يكون الوقوف عند مجرد الأمر والنهي مؤديا إلى مناقضة غرض الشارع من الأمر والنهي [24] .
ومن الأمثلة على كون ظواهر الأمر والنهي غير مفضية إلى ضبط معاني النصوص ومقاصدها ما يلي:
أ - ( نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوصال في قوله: لا تواصلوا ) [25] . فالصحابة الذين سمعوا النهي لم ينتهوا، فواصل الرسول بأصحابه وأقرهم على ذلك، وهنا يترتب على الأخذ بظاهر النهي من غير التفات إلى العلة أمران: [ ص: 167 ] - القول بأن الصحابة عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخالفة عند تهاونهم، فلم ينتهوا.
- أنه صلى الله عليه وسلم واصل بهم بعد النهي، عندما تركوا النهي، وهذا من التناقض، فكيف ينهاهم ثم يخالف المنهي عنه. وحاشا لله أن يخالف الصحابة نبيهم، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقع في التناقض، فثبت إذا أن النهي عن الوصال غير محمول على ظاهره من ترحيم الوصال، وإنما هـو محمول على الرفق والتيسير، فلما علموا ما في الصيام من الأجر والثواب ورغبوا في القرب من الله تعالى، واصلوا الصيام، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم بفعله ما نهاهم لأجله، وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن النهي عن الوصال ليس لعلة في ذاته، إنما للرفق بهم.
ب - نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ؛ كبيع الثمرة قبل أن تنضج، وبيع المنابذه، والحصاة، وغيره [26] . لو أخذناه على ظاهره بالنظر إلى مجرد الصيغة من غير التفات إلى العلة لامتنع علينا بيع وشراء الكثير مما هـو جائز؛ مثل بيع الجوز واللوز، والقسطل في قشرها وبيع المغيبات في الأرض، والمقاثي كلها، والديار والحوانيت ذات الأسس المغيبة في الأرض، وغير ذلك مما هـو خفي ومغيب لا يرى [27] . وقد تعارف الناس على جواز مثل هـذه البيوع؛ [ ص: 168 ] إما لورود آخر يخصص النهي عن بيوع الغرر، إذ يبعد أن ينقضي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يرى تعامل الناس بمثل هـذه البيوع المغيبة والخفية عن الأنظار، أو يكون مما خص من النهي عن بيوع الغرر لمعنى مصلحي؛ وهو المسمى عند الأصول بالاستحسان للضرورة؛ لأن القياس يمنعهن، لكن جازا استحسانا؛ لدفع الحرج والمشقة، فكان هـذا من الغرر المستثنى، حيث قال شراح الحديث: يستثنى من بيع الغرر أمران:
- ما يدخل في المبيع تبعا، بحيث لو أفرد لم يصح بيع.
- ما يتسامح فيه إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه مثل بيع أسس البناء، واللبن في الضرع، والحمل في بطن أمه، والقطن المحشو في الجبة إذا كان تبعا [28] .
وهكذا فالحمل على الظاهر مطلقا قد يؤدي إلى مناقضة مقصود الشارع من التيسير ورفع الحرج، فثبت إذا اعتبار العلل والمعاني المحتفة بالأوامر والنواهي.
رابعا: إن هـذا التخوف من مناقضة مقصود الشارع باتباع ظواهر الأمر والنهي من غير التفات إلى المعاني والعلل هـو ما جعل الدكتور عبد المجيد النجار يعترض عليه بالنظر إلى تحققات وقوع الأمر في الواقع العملي، فليس كل عمل بظاهر الأمر مفض إلى تحقيق مقصد الشارع، كما هـو الحال [ ص: 169 ] بالنسبة للأمر الظاهر بقطع يد السارق في قوله تعالى :
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) (المائدة: 38) ،
فظاهر الأمر يفيد إيقاع القطع في جميع الأحوال، فلو أقيم الحد بسبب المجاعة مثلا فإنه لا يحقق المقصد من العقوبة وهو الزجر والتأديب [29] ، وهذا ما جعل الخليفة عمر رضي الله عنه يمتنع عن إقامة الحد في عام المجاعة؛ لمخالفته مقصود الشارع.
الرأي الراجح
من خلال عرض أدلة القائلين بالوقوف مع ظاهر الأمر والنهي من غير التفات إلى العلل والمعاني، والردود الواردة على تلك الأدلة يتبين ضعف هـذا المسلك؛ ذلك أن الحمل على الظاهر لا يستقيم في كل الأحوال، وقد يؤدي إلى مخالفة مقصد الشارع؛ لذا فالراجح هـو الالتفات إلى المعاني والعلل والمصالح المرادة من الأوامر والنواهي؛ لتحديد المراد الإلهي منها، وبذلك يكون الجمع بين ظواهر النصوص ومعانيها هـو المنهج الأمثل لمعرفة مقصد الشارع كما مر بيانه.
المسلك الثاني: التعليل فيما عقل معناه
يرد التعليل عند علماء الأصول ويراد به أمران:
أحدهما: إن أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد في العاجل والآجل.
ثانيهما: بيان علل النصوص [30] . [ ص: 170 ] والإطلاق الأول هـو التعليل بمعناه العام، والإطلاق الثاني هـو التعليل بمعناه الجزئي، وهو الذي يتصل بهذا المسلك.
وعرفه شلبي بأنه: (بيان العلل، وكيفية استخراجها) [31] . والدريني بأنه: (تبيين أو تفسير اجتهادي عقلي، يستخلص علة الحكم التي بني عليها) [32] .
فمجموع التعاريف متقارب المعنى، ويفيد أن التعليل عبارة عن استخلاص علة الحكم من النص.
وقد عبر عنه الشاطبي بقوله: (اعتبار علل الأمر والنهي، ولماذا أمر بهذا الفعل؟ ولماذا نهي عن هـذا الآخر؟) [33] . أي البحث عن المقصد من الأمر، والمقصد من النهي، فاعتبار علل الأمر والنهي معناه الوقوف على مقاصدهما، فنتج من ذلك أن العلة المقصودة من الأمر ما يدل عليه من جلب للمصالح، وأن العلة المقصودة من النهي ما يدل عليه من دفع للمفاسد، فآل الأمر إلى معرفة المصالح المنوطة بالأوامر، والمفاسد المنوطة بالنواهي.
وإذا عرفت المصلحة من الأمر عرف مقتضاه؛ وهو قصد الإيقاع، أي: عدم الفعل. فالأمر بالنكاح، لما كان لمصلحة التناسل كان مقصودا. والأمر بالبيع لما كان لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه كان مقصودا، والأمر بالحدود لما كانت لمصلحة الازدجار كانت مقصودة. [ ص: 171 ] فتعين إذا أن القصد إلى إيقاع الفعل أو عدمه لا يعرف من مجرد الأمر والنهي، بل يعرف من العلل المنوطة بهما؛ وهي المصالح المقصودة من الأوامر، والمفاسد المقصودة من النواهي؛ لأن المصالح مقصودة الفعل، والمفاسد مقصودة الترك؛ لذا: (فإذا تعينت -أي: العلل- علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، ومن التسبب أو عدمه. وإن كانت غير معلومة فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا أو كذا) [34] .
فحاصل هـذا المسلك راجع إلى البحث عن علل الأمر والنهي، بل البحث عن علل النصوص، وذلك باستخدام مسالك التعليل، يقول الشاطبي : (وتعرف العلة هـنا بمسالكها المعروفة في أصول الفقه، فإذا تعينت علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، ومن التسبب أو عدمه، وإن كانت غير معلومة فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا) [35] .
فهو يرى أن مسالك التعليل هـي الطرق الموصلة إلى معرفة علل الأمر والنهي، وأن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، فإن كانت العلة مصلحة دلت على قصد الشارع في إيقاعها، وإذا كانت مفسدة دلت على قصد الشارع في عدم إيقاعها. [ ص: 172 ] ومما يؤكد أن الشاطبي يقصد بمسالك التعليل ما ذكره علماء الأصول في باب القياس، قوله: (إن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين: أحدهما: ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة؛ كالإجماع، والنص، والإشارة، والسبر، والمناسبة، وغيرها، وهذا القسم هـو الظاهر الذي نعلل به، ونقول: إن شرعية الحكم لأجله.
ثانيهما: ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة، ولا يطلع عليه إلا بالوحي) [36] .
وهكذا أصبحت مسالك التعليل طرقا لاستخراج علة القياس، وطرقا أيضا لاستخراج مقاصد التشريع، كما يقول النجار : (فتلك المسالك تصبح طرقا لاستكشاف مقاصد الشريعة) [37] . ومن المعلوم أن مسالك التعليل إنما وضعت لكشف علة القياس؛ وهي الوصف الظاهر المنضبط الذي هـو مظنة وجود الحكمة، ولم توضع للكشف عن الحكمة ذاتها، فهل هـي صالحة لأن تكون طرقا لمعرفة الحكم والمصالح كما يراه الشاطبي ؟
والجواب أن ذلك ممكن إذا علمنا أن الوصف الظاهر المنضبط مظنة وجود الحكمة، فهو مستلزم لوجودها لا محلة؛ ذلك أن من الشروط الواجب توفرها في الوصف المعلل به أن يكون مناسبا للحكم، ومعنى المناسبة : أن يترتب على شرعية الحكم المنوط به مصلحة مقصودة للشارع [38] . [ ص: 173 ] وقد أكد ابن عاشور العلاقة القائمة بين العلة والحكمة عند الجمهور حيث قال: (ألا ترى أنهم لما اشترطوا أن العلة تكون ضابطا لحكمة كانوا قد أحالونا على استقراء وجوه الحكم الشرعية التي هـي من المقاصد) [39] .
ويقول عن الأصوليين: (نجدهم في تعليل القياس يوجهون أنظارهم إلى التعليل بالأوصاف الظاهرة المنضبطة، مع أنهم يصرحون بأن تلك الأوصاف يحصل من وجودها معنى؛ هـو المسمى بـ: الحكمة، أو المصلحة، أو درء المفسدة) [40] .
فالقتل العمد : العدوان علة القصاص؛ لما في القصاص من حكمة الحفاظ على النفوس. والإسكار: علة إقامة حد الخمر؛ لما في إقامة الحد من حكمة الحفاظ على العقول. والزنى: علة إقامة حد الرجم؛ لما في إقامة الحد من حكمة الحفاظ على الأنساب. والسرقة: علة القطع؛ لما في إقامة الحد من الحفاظ على الأموال.
وهكذا يتضح من خلال هـذه الأمثلة وغيرها أن العلة متضمنة للحكمة، ومظنة وجودها، فتكون معرفة العلة طريقا لمعرفة الحكمة بالضرورة.
وخلاصة القول: إن هـذا المسلك يرجع إلى البحث عن علل النصوص، وما اشتملت عليه من معان وحكم ومصالح مقصودة للشارع، فيكون التعليل أحد المسالك لمعرفة المقاصد.
المسلك الثالث المناسبة
هذا هـو المسلك الثالث الذي عبر عنه بقوله: [ ص: 174 ] (إن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة) [41] .
والمقصد الأصلي هـو ما شرع الحكم لأجله بالقصد الأول؛ كالنكاح شرع للتناسل بالقصد الأول، وكالصلاة شرعت لعبادة الله تعالى بالقصد الأول. أما المقصد التبعي فهو ما كان مشروعا بالقصد الثاني، وعلامته أن يكون مناسبا وملائما للمقصد الأصلي؛ كأن يحافظ المقصد التبعي على دوام المقصد الأصلي ويؤكده ويثبته ويقويه. فالقصد التبعي للنكاح يتجلى في طلب السكن، والتعاون بين الزوجين على المصالح الدنيوية والأخروية، والاستمتاع بالحلال وتربية الأولاد, والتحصن من الوقوع في الحرام، وغير ذلك مما يقوي أواصر الرابطة الزوجية، فجميع هـذه المعاني مقصودة؛ لكونها تلائم وتناسب المقصد الأصلي من النكاح وهو التناسل، فتكون مقصودة قصدا تبعيا. والقصد التبعي للصلاة طلب ثواب الآخرة؛ ليكون المرء من أولياء الله تعالى، فهذا يلائم ويناسب المقصد الأصلي؛ وهو عبادة الله تعالى، فيكون مقصودا قصدا تبعيا [42] .
هل يعد مسلك المناسبة مستقلا عن مسلك التعليل؟
لقد ذكر الشيخ دراز أن هـذا المسلك هـو ما اصطلح الأصوليون على تسميته بـ: ( المناسبة ) ، واعترض على الشاطبي ؛ لكونه أفرده عن مسلك التعليل [43] ، كما أشار النجار إلى ذلك أيضا [44] ، فما حقيقة المناسبة؟ [ ص: 175 ] عرفها القرافي بقوله: ( المناسب : ما تضمن تحصيل مصلحة، أو درء مفسدة) [45] .
فمسلك المناسبة هـو تعيين العلة التي لم يرد فيها نص ولا إجماع؛ بمجرد ظهور الملائمة بين الوصف المعلل به والحكم الشرعي. والملائمة معناها أن يكون الوصف المعلل به متضمنا لجلب مصلحة أو درء مفسدة، فالمناسبة إذا استخراج العلة غير المنصوص عليها والمجمع عليها بطريق الاستنباط. ومن هـنا يمكن معرفة وجه إفراد الشاطبي لهذا المسلك؛ ليبين أن العلل تعرف من مصدرين:
الأول: النص، ويدل على العلة المنصوصة في الأوامر والنواهي، وأطلق عليها اسم: (اعتبار علل الأمر والنهي) ؛ أي: العلل المنصوص عليها.
الثاني: الاجتهاد، ويدل على العلة المستنبطة بطريق المناسبة.
وقد ذكر علماء الأصول أن أدلة الشرع لما كانت منحصرة في النص والإجماع والاستنباط كان دليل العلة منحصرا فيها أيضا، فتعرف من مصادر ثلاثة هـي: النص، والإجماع، والاستنباط [46] .
كذلك فإن الشاطبي خصص مسلك المناسبة لمعرفة المقاصد التبعية على الخصوص، فبالإضافة إلى كونها تعرف بالنص، تعرف أيضا بطريق المناسبة والملائمة بينها وبين المقاصد الأصلية، فكل ما كان مقويا ومثبتا وداعيا إلى تحقيق المقاصد الأصلية كان مقصودا قصدا تبعيا مشروعا، وكل ما كان مخالفا ومناقضا لتحقيقها كان غير مقصود. [ ص: 176 ] فمسلك المناسبة إذا خاص بمعرفة المقاصد التبعية للتمييز بين ما هـو مقصود وغير مقصود؛ حتى لا تعود المقاصد التبعية بالإبطال على المقاصد الأصلية.
ومثال ذلك: نكاح التحليل، ونكاح المتعة، فهما غير مقصودين؛ لأنهما يعودان بالنقض على المقصد الأصلي من النكاح؛ وهو التناسل والدوام. وكذا إقامة العبادات من أجل السمعة والرياء أو كسب الأموال غير مقصودة؛ لأنها تعود بالنقض على المقصد الأصلي من العبادة؛ وهو التعبد الخالص لله رب العالمين [47] .
المسلك الرابع: التعبد فيما خفي معناه
هـذا هـو المسلك الرابع الذي عبر عنه الشاطبي بقوله: (السكوت عن شرع التسبب أو شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له) [48] .
وهذا المسلك خاص بمعرفة قصد الشارع في عدم الفعل، لا في الفعل، وحاصله أن الأحكام التي لم ينص عليها الشارع وسكت عنها في زمن التشريع على ضربين:
الأول: ما لم ينص عليه الشارع في زمن التشريع وسكت عنه؛ لأنه لا داعية له يقتضيه ولا موجب له، وذلك كالنوازل التي حدثت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ كجمع المصاحف، وتدوين العلوم، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك، حيث نظر فيها السلف الصالح وأجروها على ما تقرر في كلياتها.
وهذا القسم تجري فروعه على أصوله المقررة شرعا، فيعرف المقصد الشرعي فيها من الجهات المذكورة من قبل؛ أي: من الجهة الثالثة، وهي ما لم [ ص: 177 ] ينص عليه وعلم بمسلك استقرئ من النصوص، وقد ظهر أن الجهة الثالثة هـي: ( مسلك المناسبة ) ، ومعناها: الملاءمة بين الأحكام ومقاصد التشريع وكلياته من جلب للمصالح ودرء للمفاسد، ومن ثم فإن النوازل الحادثة بعد زمن التشريع التي لم يرد فيها نص تعرف بمسلك المناسبة، فما كان مناسبا لمقاصد التشريع كان مشروعا، وما كان منها مناقضا كان غير مشروع.
الثاني: ضرب لم ينص عليه الشارع في زمن الوحي مع قيام المعنى المقتضي له، فالسكوت عنه كالنص على أنه ثابت لا يقبل الزيادة عليه ولا الإنقاص، وأن أي زيادة على ما كان بدعة ومخالفة لمقصد الشارع، وحينئذ يكون مقصد الشارع الوقوف عند النص؛ أي: التعبد؛ كسجود الشكر عن الإمام مالك ، هـو غير مشروع؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قيام المعنى المقتضي له، وهو انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوات والفتوحات، ومع ذلك لم يثبت أنه سجد لله تعالى، فدل ذلك على أنه غير مقصود، وأن السنة عدم السجود؛ وسقوط زكاة الخضر والبقول، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الزكاة من أصحابها، فدل ذلك على عدم وجوبها، وأن السنة عدم الزكاة فيها. وكذلك تحريم نكاح التحليل مع قيام المعنى المقتضي له في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وهو التخفيف والترخيص للزوجين ليرجعا كما كانا أول مرة، مما يدل على أن التحليل غير مقصود [49] . [ ص: 178 ]
نظرة في هـذا المسلك
إن هـذا المسلك خصصه الشاطبي لمقاومة البدع، ومعرفة الأفعال غير المقصودة شرعا، التي سكت عنها الشارع مع قيام أسبابها الداعية إليها، كما خصصه للتفريق بين البدع والمصالح المرسلة، فكلاهما من المسكوت عنه شرعا في زمن الوحي، ولم يرد فيهما نص بالنفي أو بالإثبات، لكنهما يختلفان من جهتين:
أ - ملاءمة المصالح المرسلة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلا من أصوله، ولا دليل من دليله.
ب - أن عامة النظر في المصالح المرسلة إنما هـو فيما عقل منها، وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل؛ كالضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص وغير ذلك.
وقد ساق الشاطبي أمثلة وشواهد كثيرة من أوجه العبادات غير المعقولة المعنى في باب الطهارة، وأوقات الصلاة، وغسل الميت، والصيام، إلى أن قال: (إن في هـذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحى نحوه واعتبرت جهته؛ وهو أن ما كان من التكاليف من هـذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده، ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه؛ سواء علينا أقلنا: إن التكاليف معللة بمصالح العباد، أم لم نقله) [50] . [ ص: 179 ] وفي الأخير قرر أن البدع مخالفة ومضادة للمصالح المرسلة؛ لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل، والتعبدات ما لا يعقل معناها على التفصيل، وأيضا فإن عامة البدع لا تلائم مقاصد الشرع، إلى أن قال: (وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى آراء العباد، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، والزيادة عليه بدعة، كما أن النقصان منه بدعة) [51] .
وهكذا يتبين أن الشاطبي جعل هـذا المسلك مقابلا للمسلكين السابقين؛ وهما اعتبار علل الأمر والنهي، والمناسبة. ذلك أن هـذين ينطبقان على المصالح المعقولة التي نص الشارع على عللها، أو أوكل الاجتهاد في استنباطها، أما هـذا المسلك فهو خاص بالمصالح غير المعقولة؛ وهي التعبدات، فلا اجتهاد فيها بالزيادة والنقصان، بل الواجب فيها الوقوف مع النص؛ لذلك اصطلح على تسميته بـ: مسلك التعبد من غير تعليل؛ ليكون مقابلا للمسلكين المفيدين لاعتبار التعليل.
وهذا المسلك شامل لجميع أحكام العبادات؛ لأن الأصل فيها التعبد، وشامل أيضا لما في المعاملات من أحكام غير معقولة المعنى؛ كمقادير [ ص: 180 ] الحدود، والكفارات، وشروط النكاح والطلاق، والعدد، وغير ذلك مما نص عليه الشارع وتعبدنا به من غير زيادة ولا نقصان، فالواجب الوقوف فيه عند حدود النص.
خلاصة المسالك الظنية
إذا استعبدنا المسلك الأول، وهو (مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي) ؛ لكونه مسلكا ظاهريا لا يتماشي مع رأي الجمهور القائلين بتعليل الأحكام، وإذا اعتبرنا أن المسلك الثاني وهو (اعتبار علل الأمر والنهي) ، والمسلك الثالث وهو (المناسبة) كلاهما يندرجان ضمن مسلك (التعليل فيما عقل معناه) ، والمسلك الأخير مقابلا له؛ أي: (التعبد فيما لا يعقل معناه) فإن قائمة المسالك تنحصر في مسلكين عامين:
الأول: التعليل فيما عقل معناه.
الثاني: التعبد فيما خفي معناه.
وهذا ما لخصه الشاطبي في موضع آخر بأسلوب آخر مختصر وجامع حيث قال: (إن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين:
أحدهما: ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة؛ كالإجماع، والنص، والإشارة، والسبر، والمناسبة وغيرها، وهذا القسم هـو الظاهر الذي نعلل به، ونقول: إن شرعية الأحكام لأجله.
الثاني: ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة، ولا يطلع عليه إلا بالوحي) [52] . [ ص: 181 ]
النوع الثاني: المسالك القطعية
والمراد بها المسالك التي دلت عليها نصوص كثيرة بلغت درجة القطع أو القريب من القطع. وحصرها ابن عاشور في ثلاثة مسالك هـي:
المسلك الأول: الاستقراء
الاستقراء في اللغة: معناه التتبع، يقال: استقرأ الأشياء؛ أي: تتبعها لمعرفة أحوالها وخواصها. والأصل أنه مأخوذ من: (قرأ) ، بمعنى: تتبع ونظر أعماله، وقرأ الأمر: تتبعه، وقرأ البلاد: تتبعها أرضا أرضا، وسار فيها ينظر حالها وأمرها، وقرأ الأرض: تتبع ناسا بعد ناس فيها [53] .
وفي الاصطلاح: (عبارة عن تصفح أمور جزئية؛ لتحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات) [54] . أو: (تصفح جزئيات المعنى؛ ليثبت في جهتها حكم عام) [55] ؛ أي: (استقراء مواقع المعنى؛ حتى يحصل منه في الذهن على أمر كلي عام) [56] .
يفهم من هـذه التعاريف أن الاستقراء منعاه: (تتبع معاني الجزئيات؛ لاستخلاص معنى كلي) .
أنواع الاستقراء: ينقسم الاستقراء إلى نوعين
الأول: استقراء الأحكام المعروفة عللها
ويرجع إلى استنباط علل كثيرة لأحكام مختلفة بمسالك العلة المعروفة في أصول الفقه، ثم استقراء تلك [ ص: 182 ] العلل وترتيبها وفق الحكمة المقصودة منها، فيحصل من كل مجموعة من العلل المتماثلة حكمة متحدة؛ هـي المقصد الشرعي. ومن أمثلة ذلك:
- علة النهي عن المزابنة الثابت بمسلك الإيماء ( في قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن بيع التمر بالرطب: أينقص الرطب إذا جف؟ قال: نعم. قال: فلا إذن ) [57] . فعلة تحريم المزابنة هـي الجهل بمقدار أحد العوضين؛ وهو الرطب منهما المبيع باليابس؛ لأن من شروط صحة البيع تساوي العوضين.
- علة النهي عن بيع الجزاف بالمكيل؛ هـو الجهل بمقدار أحد العوضين وهو بيع الجزاف ، وعرفت هـذه العلة بطريق الاستنباط.
- علة إباحة القيام بالغبن؛ هـو نفي الخديعة بين الأمة، الثابت بمسلك النص، ( في قوله صلى الله عليه وسلم للذي يخدع في البيوع: إذا بايعت فقل: لا خلابة ) [58] .
إذا استقرينا مجموع هـذه العلل الثلاث وجدناها تهدف إلى تحقيق حكمة مشتركة متحدة هـي: إبطال الغرر في المعاوضات، فيستخلص من ذلك أن إبطال الغرر في المعاوضات مقصد شرعي قطعي.
- علة النهي عن خطبة المسلم على خطبة أخيه هـي الوحشة التي تنشأ من السعي إلى حرمان أحد الخاطبين من منفعة مقصودة. [ ص: 183 ] - علة النهي عن السوم على السوم في البيوع؛ هـي السعي إلى حرمان أحد السائمين في تحقيق منفعة مقصودة.
فيحصل من استقراء هـاتين العلتين الثابتتين بمسلك النص حكمة جامعة متحدة هـي الحفاظ على دوام الأخوة بين المسلمين، فتكون مقصدا شرعيا.
الثاني: استقراء أدلة أحكام مشتركة في علة واحدة:
أي استنباط علل كثيرة لأحكام متماثلة في علة واحدة، بحيث تكون تلك العلة هـي مقصد الشارع يقينا؛ ومن أمثلة ذلك:
- علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه؛ هـي: طلب رواج الطعام في الأسواق.
- علة النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة؛ هـي: ألا يبقى في الذمة فيفوت رواجهه.
- علة النهي عن الاحتكار؛ هـي: منع إقلال الطعام في الأسواق.
فيحصل من استقراء علل هـذه الأحكام علة مشتركة؛ هـي: طلب رواج الطعام وتيسير تناوله، فيكون هـو المقصد الشرعي.
- كثرة الأمر بتحرير الرقاب يدل على أن حرية الإنسان مقصد شرعي [59] .
نظرة في هـذا المسلك
إن مسلك الاستقراء يعتمد أساسا على الحث عن علل النصوص والأحكام، وترتيبها في مجموعات متحدة الغرض؛ للوصول إلى حكمة مشتركة تكون هـي المقصد الشرعي المطلوب. ومن ثم فإن حاصل هـذا [ ص: 184 ] المسلك راجع إلى البحث عن العلل بوساطة مسالك التعليل المعروفة في أصول الفقه، فهو يشبه من هـذه الجهة مسلك التعليل عند الشاطبي ، غير أن ابن عاشور ارتقى به لأن يكون مسلكا قطعيا، لا يقتصر على الأحكام والنصوص الفردية الجزئية، بل يستقرئ مجموعات كثيرة من الأحكام والنصوص للوصول إلى مقاصد قطعية. وهذا يدل على أن معرفة المقاصد -سواء الظنية منها أو القطعية- متوقف على استنباط علل النصوص بوساطة مسالك التعليل المعروفة في أصول الفقه، وهي الحقيقة التي اتفق عليها كل من الشاطبي وابن عاشور. فالتعليل إذا أهم مسلك من مسالك كشف مقاصد التشريع.
المسلك الثاني: نصوص القرآن الواضحة الدلالة
هذا هـو المسلك القطعي الثاني بعد الاستقراء، ويعتمد على الاستخلاص المباشر للمقصد الشرعي من نصوص القرآن الواضحة الدلالة، بحيث يكون احتمال غير المراد منها ضعيفا؛ وأمثلة ذلك:
- قوله تعالى: ( والله لا يحب الفساد ) (البقرة:205) ، فإنه يدل دلالة واضحة على أن درء الفساد مقصد شرعي.
- قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) (النساء:29)
دليل واضح على أن أكل أموال الناس بالباطل مفسدة، وأن الحفاظ على المال مقصد شرعي. [ ص: 185 ] - قوله تعالى: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (فاطر:18)
دليل واضح على أن أحدا لا يتحمل تبعة الآخر، وأن الحفاظ على براءة الناس من التهم مقصد شرعي.
- قوله تعالى: ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) (المائدة:91)
دليل واضح على أن في شرب الخمر ولعب الميسر مفاسد كبيرة.
- قوله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185) ،
وقوله تعالى: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج:78)
دليلان واضحان على أن التيسير ورفع الحرج مقصد شرعي.
ففي كل آية من هـذه الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه عليه [60] .
إن هـذا النوع من المقاصد المستخلصة بطريق مباشر من نصوص القرآن تمتاز بالقطع؛ ذلك أن (القرآن لكونه متواتر اللفظ قطعية، يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع تعالى، ولكنه لكون بعضه ظني الدلالة يحتاج إلى دلالة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثان إليها، فإذا انضم إلى قطعية المتن قوة ظن الدلالة تسنى لنا أخذ مقصد شرعي منه يرفع الخلاف عند الجدل في الفقه) [61] . [ ص: 186 ]
نظرة في هـذا المسلك:
إن هـذا المسلك يعتمد على معرفة المقاصد الشرعية انطلاقا من نصوص القرآن الواضحة الدلالة عليها؛ أي: النصوص التي صرحت بالمقصد أو نبهت عليه من غير حاجة إلى البحث عن العلل بوساطة مسالك التعليل؛ ذلك أن القرآن الكريم دل على الكثير من الحكم والمصالح لأجل اجتلابها، وعلى الكثير من المفاسد لأجل اجتنابها، حيث قرن بين الأحكام وما فيها من مصالح أو مفاسد، ترغيبا أو ترهيبا، مثل:
- الحكمة من القصاص في قوله: ( ولكم في القصاص حياة ) (البقرة:179) .
- الحكمة من النهي عن الزنا: ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) (الإسراء:32) .
- الحكمة من غض الأبصار وحفظ الفروج: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ) (النور:30) .
- الحكمة من الإعداد للقتال: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (الأنفال:60) .
- الحكمة من الاعتدال في الإنفاق: ( ولا تجعل يدك مغلولة [ ص: 187 ] إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) (الإسراء:29) . - الحكمة من الصلاة: ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) (العنكبوت:45) .
- الحكمة من الزكاة: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة :103) .
فهذه النصوص وأمثالها صرحت بالحكمة والمقصد من الأحكام الواردة فيها؛ ببيان ما فيها من مصالح أو مفاسد، وهي قاطعة الدلالة لكونها لا تحتمل معنى آخر غير المصرح به.
فمراد ابن عاشور من هـذا المسلك هـو استخلاص مقاصد قطعية؛ من نصوص القرآن القطعية أو القريبة من القطعي، بحيث يكون احتمال غير المراد منها ضعيفا.
المسلك الثالث: السنة المتواترة
هذا هـو المسلك الثالث من المسالك القطعية، وهو يعتمد على استخلاص المقصد الشرعي من السنة المتواترة؛ وهي على نوعين: تواتر معنوي، وتواتر عملي، والسنة المتواترة هـي ما أفادت القطع سندا ودلالة.
أ - التواتر المعنوي
ويحصل من مشاهدة عموم الصحابة لأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم ، بحيث يستخلص من مجموعها مقصد شرعي كلي، ويشمل هـذا النوع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة والقريبة من المعلوم ضرورة. [ ص: 188 ] ومثالها: مشروعية الصدقة الجارية المعبر عنها بالحبس، حيث يروى أن شريحا كان يرى، وهو بالكوفة ، عدم جوازها وانعقادها، فلما سمع مالك رحمه الله، قال: رحم الله شريحا تكلم بالكوفة ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم، وما حبسوا من أموالهم، وهذه صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم سبع حوائط. فالإمام مالك استند في كون الحبس مقصدا شرعيا كليا من تصرفات الرسول وأصحابه ومن بعدهم، فمجموع ذلك يدل دلالة قاطعة لا شك فيها على جوازها وانعقادها.
ب - التواتر العملي
ويحصل لآحاد الصحابة من تكرار مشاهدة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم ، بحيث يستخلص منها مقصد شرعي. ومثالها: " ما روي عن الأزرق بن قيس ، قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فقام يصلي وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هـذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس. فأقبل، فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركت الفرس لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان يرى من تيسيره. " لقد علل هـذا الصحابي قطع الصلاة واللحوق بالفرس بالمشقة اللاحقة به لو استمر في صلاته؛ بحيث لا يتمكن من اللحاق بأهله ليلا، ولما استنكر عليه من في المجلس بين له ما شهده من تيسير الرسول صلى الله عليه وسلم وسماحة. إن هـذا المقصد [ ص: 189 ] الشرعي مظنون ظنا قريبا من القطع بالنسبة إلى صاحب القضية ( أبو برزة الأسلمي ) ، ولكنه يكون مقصدا ظنيا محتملا بالنسبة إلى غيره الذين روى إليهم خبره؛ لأنهم يتلقون منه ذلك على سبيل التقليد وحسن الظن به [62] .
نظرة في هـذا المسلك
إن المراد من السنة المتواترة : هـي السنة الفعلية المنقولة نقلا متواترا مفيدا للقطع. وقد اشترط ابن عاشور لتكون مسلكا قطعيا لاستخلاص المقاصد الشرعية ثلاثة شروط:
أ - أن يتكرر الفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم مرات عديدة، يحصل اليقين منها، فلا عبرة بآحاد الأفعال والتصرفات، ويعرف ذلك بمواظبته صلى الله عليه وسلم على الفعل مرات كثيرة.
ب - أن تحصل مشاهدة فعلية من الصحابة للأفعال والتصرفات المتكررة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يكفي الإخبار عنه والرواية.
ج - أن تحصل المشاهدة من عموم الصحابة فيكون المقصد قطعيا بالنسبة للراوي وللمروي إليهم، أو تحصل من آحاد الصحابة فيكون المقصد قريبا من القطعي بالنسبة للراوي، وظنيا بالنسبة للمروي إليهم.
وهذه الشروط الثلاثة لا تتوفر إلا في حال اجتماع الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبة كثيرة، وملازمتهم له؛ كاجتماعهم معه في أداء شعائر العبادات، [ ص: 190 ] أو في حلقات العلم، أو في الغزوات والحروب؛ حيث يتسنى لعدد كبير منهم مشاهدة أفعاله صلى الله عليه وسلم وتكررها، مما يحصل لهم اليقين بمقصد شرعي قطعي؛ لأن تكرار الفعل الواحد مرات عديدة دليل قاطع على كونه مقصودا شرعا.
والسر في اشتراط عنصر المشاهدة؛ لما في ذلك من زيادة التثبت والتحقق من المقاصد الشرعية باستعباد معان كثيرة محتملة غير مقصودة من أفعاله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا (لم يستغنوا على استقصاء تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم
ولا على استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين يشدون الرحال إلى المدينة؛ ليتبصروا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين، هـنالك يتبين لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، وليتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعا لمعرفة الحكم والمقاصد) [63] .
الخلاصة:
إن المسالك المعتبرة في كشف المعاني والمصالح المقصودة شرعا قسمان:
- مسالك قطعية: وهي المعتبرة في كشف معاني النصوص الكلية ومقاصدها القطعية؛ وهي: الاستقراء، ونصوص القرآن الصريحة، والسنة المتواترة.
- مسالك ظنية: وهي المعتبرة في كشف معاني النصوص الجزئية ومقاصدها الظنية؛ وهي: التعليل فيما عقل معناه، والتعبد فيما خفي معناه.
وبهذا يكون هـذا البحث قد تم بمعرفة الضوابط المحددة للعلاقة بين اللفظ والمعنى. [ ص: 191 ]