إسلام ويب - الدعاء (سبيل الحياة الطيبة) - جمالية الدعاء- الجزء رقم1

جمالية الدعاء

إن تنمية الذوق الجمالي عند المسلم بعد تربوي إسلامي عظيم، نجد أسسه مبثوثة في مختلف النصوص القرآنية،

في مثل قوله الله تعالى: ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) (الكهف:7) ،

وقوله: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) (ق:6-7) ،

وغير ذلك من النصوص التي تتحدث عن مظاهر الجمال والزينة, وتلفت نظر الإنسان باستمرار إلى ما في الكون والوجود من آيات الجمال والروعة والفن والإبداع والإتقان، وتقوم شاهدة بجلاء على قدرة الله وعظمته وحسن صنعته، كما تزرع في نفسه بذور الإتقان والجمال وسمو الذوق، التي تنمو وتترعرع في أنماط السلوك والعلاقات، وتنفتح على آفاق الجمال في الكون، وتشد قلبه وعقله ووجدانه إلى الله تعالى مبدع الخلق والجمال في هـذا الوجود.

وبذلك تكون التربية الجمالية، من معالم الطريق إلى معرفة الله تعالى، كما أنها تصبح مكونا جوهريا من مكونات الكيان الإنساني، ومفسحة له المجال للترقي الحضاري، [ ص: 115 ] يقول مالك بن نبي ، رحمه الله، في هـذا المجال: «الإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هـو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة» ^[1] ، وبدون الإحساس الجمالي وتنمية الذوق والجمال تصبح الحياة جافة وقاحلة، ويفقد الإنسان عنصرا مهما من عناصر الحياة الطيبة، ويتخلى عن قيمة عليا من القيم التي تحكم علاقاته وتوجه سلوكياته، ويخسر الرغبة المتجددة في تحقيق الدقة والإتقان والكمال في أعماله التي تبعده عن الارتجال والفوضى والتعجل والسطحية والإهمال.

ومن أبرز المظاهر الجمالية التي تشهد لله تعالى بالعظمة والجلال، وتفتح الآفاق النفسية والعقلية والوجدانية لدى الانسان، وتحفزه على التربية الجمالية وتنمية الذوق، جمال الخلقة البشرية ذاتها،

يقول تعالى: ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك ) (الانفطار:6-8) .

ويقول في آية أخرى: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) (التين:4) .

كما تتجلى هـذه المظاهر بصورة جلية في الكون الذي يشكل لوحات فنية أخاذة، بكل ما فيه من تناسق وروعة وجمال، ومصدرا طبيعيا ساحرا للإلهام الفني والجمالي وتربية الحس والذوق والمشاعر وتهذيبها،

يقول تعالى: ( ... وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ... ) (النمل:60) . ومثل هـذه [ ص: 116 ] النصوص تبرز قيمة الجمال، وتدعونا إلى التنعم بهذه النعم العظيمة والتأمل في قدرة الله تعالى من خلالها.

وتطبيع الإنسان على ضرورة البحث عن الجمال والتحلي به وتذوقه والتنعم به يربط المتعة الروحية والمادية بالحاجة الإنسانية, ويجعل الجميل يتضمن بالضرورة النافع ولا يتناقض معه،

يقول تعالى: ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) (الرعد:4) ،

ويقول تعـالى: ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) (النحل:6) ..

آيات رائعة تكشف عن العلاقة الوثيقة بين المنفعة والجمال.. ويقول تعالى هـاديا إلى تذوق جمال النعمة المرتبطة بمنفعة الحمد:

( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ... ) (الكهف:39)

وتنمية الإحساس الجمالي في حد ذاته لدى الإنسان المؤمن هـو تنمية للملكات والطاقات، التي أنعم الله تعالى بها عليه، وفي استخدام هـذه الملكات سبلا للاستمـتاع بما خلق الله في الكون والإنسان من آيات الزينة والجمال، وبالتالي شكره تعالى على نعمة خلقه لها. فالمسلم لن يستطيع أداء فريضة الشكر لله على نعمة الجمال إلا إذا عرفها واستمتع بها، من خلال التأمل والتذوق والحرص على منهاج الله، بعبادته من خلال [ ص: 117 ] ما يحبه ويرضاه، الأمر الذي ينعكس على شخصية الإنسان وسلوكياته. وأول شروط تذوق الجمال هـو تحقق البعد الأخلاقي؛ لأن تصور الإسلام عن الجمال يقوم على المبدأ الأخلاقي, والقيمة الجمالية لا تنفصل عن القيم الأخلاقية.

وتتضح أهمية القيم الجمالية وارتباطها بالأخلاق، وتنمية الذوق لدى الإنسان في السيرة النبوية، فقد كان صلى الله عليه وسلم تجسيدا حيا ومثلا إنسانيا راقيا في الأناقة والجمال وسمو الذوق, في أفعاله وأقواله وعلاقاته. فحين يقول صلى الله عليه وسلم مثبتا القاعدة الجمالية العامة في الإسلام: ( إن الله جميل يحب الجمال ) ^[2] ، فإن ذلك ينسحب على الجمال الظاهر والجمال الباطن، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي ) ^[3] . إنه كان يعرف ربه بصفات الجمال، ويدرك ضرورة التعرف إلى حقيقة الجمال الإلهي وتجلياته في الكون والنفس, وتعويد النفس على رؤيته والانغماس فيه وتذوق لذته. فنجده صلى الله عليه وسلم يتعرف إليه تعالى بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، ويجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بالطهارة، ويحث على التحلي بمظهر وسلوكيات الجمال من منطلق جمال الله تعالى الذي يحب الجمال. [ ص: 118 ] من هـنا كانت سيرته صلى الله عليه وسلم تجسيدا لجمال المظهر وجمال الجوهر ونظافتهما. وكان الاقتداء به صلى الله عليه وسلم تربية في الجمـال والأخلاق والنظافة؛ لأن نظافة الشكل مدعاة لنظافة الضمير، ونظافة الفرد مدعاة لنظافة المجتمع. وبذلك يتحـقق بعد تربوي إسلامي عظيم متمثل في طهارة المجتمع المسلم طهارة معنوية من الفواحش والمعاصي والذنوب والآثام، فترتفع النفس المسلمة من رجس الفوضى وأوحال الوحشية إلى نظافة الأخلاق وتهذيب السلوك وجماليته. ومن ثم يتم تطهير الحياة الاجتماعية عامة حتى تصبح التربية شاملة للنفس والعقل والجسم بتطهير النية والعمل والسلوك وتجميلها.

ولعل بعدنا في واقعنا المعاصر عن هـذا المفهوم الحقيقي للجمال وتجلياته ينبع من عدم تمثلنا للارتباط بين الجمال والأخلاق والنظافة في ديننا، وعدم ترسيخها في الفرد والمجتمع بوصفها قيما مركزية تضبط السلوك، وتوجه الممارسة، ومن ضمنها الدعاء. من هـنا نجد ما للدعاء من فاعلية كبيرة في تنمية الذوق الجمالي, وإخصاب النفس بتجليات الجمال الإلهي؛ لأن البث الروحي الذي يخلقه الدعاء يفيض بعبقات الحب والمتعة، والشعور بالرضى والسعادة، فيرتقي الإنسان في درجات من الجمال والصفاء النفسي، التي تنعكس على شخصيته وسلوكه. [ ص: 119 ] وهذه الرؤية الشمولية للجمال ومظاهره وتجلياته التي نلمسها في معاني الدعاء القرآني والحديثي ومضامينه الداخلية، تنسحب على بنيته الفنية الخارجية أيضا، وتحمل رسائل إيحائية متعددة بتعدد الداعي، ودرجات تمثله لتناسق ووحدة الشكل والمعنى. وبذلك يقدم النص الدعائي جماليته في ضوء انفتـاحه على عالم لا متناه من الدلالات وأشكالها التعبيرية، القـادرة على احتواء انفعالات الداعي المتباينة، وتوجيه فكره إلى ما فيه صـلاح نفسه واطمئنانها. وبما أن الدعاء حركات لفظية مباشرة تسعى للانتظام في النفس بما تحمله من دلالات وإيحاءات، فإنها تظل مشـدودة في وظيفتـها إلى الرؤية الـكلية المتمثلة في ألفاظ الدعاء وتراكيب جمله وصوره البلاغية، التي تموج بشحنات عاطفية عـالية تقوم على الابتهال والاستعطاف، وتعبر عن الوظيفة النفسية والحاجة الاجتماعية.

والعلاقة الفنية بين أسلوب نص الدعاء ودلالاته وأهدافه تشهد بجمالية السبك ورونقه، وبلاغته الإعجازية التي بمقدار ما تمتع الداعي جماليا، تحقق لديه نشوة عاطفية عالية، وتأملا فكريا عريضا. وهذه نماذج من الأدعية التي وردت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية تكشف عن فاعليتها في النفس، سواء من خلال إشاعتها للجمال، أو من خلال جماليتها في حد ذاتها: [ ص: 120 ]