وفي هذا بيان أنها كانت مسفرة عن وجهها { ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة غير مخضوب فقال : أكف رجل هذا } ولما ناولت رضي الله عنها أحد ولديها فاطمة أو بلالا رضي الله عنهم قال أنسا : رأيت كفها كأنه فلقة قمر فدل أنه لا بأس بالنظر إلى الوجه والكف فالوجه موضع الكحل والكف موضع الخاتم والخضاب وهو معنى قوله تعالى { أنس إلا ما ظهر منها } وخوف الفتنة قد يكون بالنظر إلى ثيابها أيضا قال القائل
وما غرني الإخضاب بكفها وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
ثم لا شك أنه يباح ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفها وروى النظر إلى ثيابها عن الحسن بن زياد أنه أبي حنيفة أيضا وهكذا ذكر يباح النظر إلى قدمها الطحطاوي لأنها كما تبتلى بإبداء وجهها في المعاملة مع الرجال وبإبداء كفها في الأخذ والإعطاء تبتلى بإبداء قدميها إذا مشت حافية أو متنعلة وربما لا تجد الخف في كل وقت وذكر في جامع البرامكة عن أنه يباح أبي يوسف أيضا لأنها في الخبر وغسل الثياب تبتلى بإبداء ذراعيها أيضا قيل : وكذلك يباح النظر إلى ثناياها أيضا لأن ذلك يبدو منها في التحدث مع الرجال وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها لقوله صلى الله عليه وسلم { النظر إلى ذراعيها : من نظر إلى محاسن أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة } { رضي الله عنه : لا تتبع النظرة بعد النظرة فإن الأولى لك والأخرى عليك لعلي } يعني بالأخرى أن يقصدها عن شهوة . وقال{ } وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه إن نظر اشتهى لأن أكبر الرأي فيما لا يتوقف على حقيقته كاليقين وذلك فيما هو مبني على الاحتياط وكذلك وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نظرت إلى امرأة فاشتهيتها فأتبعتها بصري فأصاب رأسي جدار فقال صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد خيرا عجل عقوبته في الدنيا لما روي { لا يباح لها أن تنظر إليه إذا كانت تشتهي أو كان على ذلك أكبر رأيها استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ابن أم مكتوم [ ص: 154 ] عائشة وحفصة رضي الله عنهما فقال لهما : احتجبا فقالتا : أنه أعمى يا رسول الله فقال : أوأعميان أنتما } ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفها وإن كان يأمن الشهوة لقوله صلى الله عليه وسلم { أن من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع في كفه جمرة يوم القيامة حتى يفصل بين الخلائق } ولأن حكم المس أغلظ حتى أن يثبت حرمة المصاهرة والنظر إلى غير الفرج لا يثبت المس عن شهوة ولا يفسد بالنظر فالرخصة في النظر لا يكون دليل الرخصة في المس والبلوى التي تتحقق في النظر تتحقق في المس أيضا وعلى هذا نقول : للمرأة الحرة أن تنظر إلى ما سوى العورة من الرجل ولا يحل لها أن تمس ذلك منه لأن حكم المس أغلظ وهذا إذا كانت شابة تشتهى . والصوم يفسد بالمس عن شهوة إذا اتصل به الإنزال
فإذا لما روي { كانت عجوزا لا تشتهي فلا بأس بمصافحتها ومس يدها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة ولا يصافح الشواب ولكن كان يضع يده في قصعة ماء ثم تضع المرأة يدها فيها فذلك بيعتها } إلا أن رضي الله عنها أنكرت هذا الحديث وقالت : من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مس امرأة أجنبية فقد أعظم الفرية عليه وروي أن عائشة رضي الله عنه كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التي كان مسترضعا فيها فكان يصافح العجائز ولما مرض أبا بكر الصديق رضي الله عنه الزبير بمكة استأجر عجوزا لتمرضه فكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه ولأن الحرمة لخوف الفتنة فإذا فخوف الفتنة معدوم وكذلك إن كان هو شيخا يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها وإن كان لا يأمن عليها أن تشتهي لم يحل له أن يصافحها فيعرضها للفتنة كما لا يحل له ذلك إذا خاف على نفسه فأما كانت ممن لا تشتهى لا يحل بحال إلا عند الضرورة وهو ما إذا دعي إلى الشهادة عليها أو كان حاكما ينظر ليوجه الحكم عليها بإقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها لأنه لا يجد بدا من النظر في هذا الموضع والضرورات تبيح المحظورات ولكن عند النظر ينبغي أن يقصد أداء الشهادة أو الحكم عليها ولا يقصد قضاء الشهوة لأنه لو قدر على التحرز فعلا كان عليه أن يتحرز فكذلك عليه أن يتحرز بالنية إذا عجز عن التحرز فعلا كما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم واختلفوا فيما إذا النظر إليها عن شهوة فمنهم من جوز له ذلك أيضا بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة . دعي إلى تحمل الشهادة وهو يعلم أنه إن نظر إليها اشتهى
ألا ترى أن شهود الزنا لهم أن ينظروا إلى موضع العورة على قصد [ ص: 155 ] تحمل الشهادة والأصح أنه لا يحل له ذلك لأنه لا ضرورة عند التحمل فقد يوجد من يتحمل الشهادة ولا يشتهي بخلاف حالة الأداء فقد التزم هذه الأمانة بالتحمل وهو متعين لأدائها وكذلك إن كان وإن كان يعلم أنه يشتهيها لما روي { أراد أن يتزوجها فلا بأس بأن ينظر إليها لما أراد أن يتزوج امرأة : أبصرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما للمغيرة بن شعبة } { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال محمد بن أم سلمة يطالع بنية تحت إجار لها فقيل له : أتفعل ذلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا ألقى الله خطبة امرأة في قلب رجل أحل له النظر إليها } ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة ، وإنما يعتبر ما هو المقصود لا ما يكون تبعا وإن وكان فلا بأس بتأمل جسدها ; لأن نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها ، فهو كما لو كانت في بيت فلا بأس بالنظر إلى جدرانه والأصل فيه ما روي { كان عليها ثياب أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة عليها شارة حسنة فدخل بيته ثم خرج وعليه أثر الاغتسال فقال : إذا هاجت بأحدكم الشهوة فليضعها فيما أحل الله له } وهذا إذا لم تكن ثيابها بحيث تلصق في جسدها وتصفها حتى يستبين جسدها فإن كان كذلك فينبغي له أن يغض بصره عنها لما روي عن رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا تلبسوا نساءكم الكتان ولا القباطي فإنها تصف ولا تشف وكذلك إن كانت ثيابها رقيقة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { عمر : لعن الله الكاسيات العاريات } يعني الكاسيات الثياب الرقاق اللاتي كأنهن عاريات وقال صلى الله عليه وسلم { } ولأن مثل هذا الثوب لا يسترها فهو كشبكة عليها فلا يحل له النظر إليها وهذا فيما إذا كانت في حد الشهوة فإن كانت : صنفان من أمتي في النار رجال بأيديهم السياط كأنها أذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مائلات متمايلات كأسنمة البخت لأنه ليس لبدنها حكم العورة ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة والأصل فيه ما روي { صغيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها الحسن رضي الله تعالى عنهما وهما صغيران والحسين } وروي أنه كان يأخذ ذلك من أحدهما فيجره والصبي يضحك ولأن العادة الظاهرة ترك التكلف لستر عورتها قبل أن تبلغ حد الشهوة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل زب