قوله عز وجل:
وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا
اضطرب الناس في تفسير هذه الآية، فقال رضي الله عنهما: أراد: بحر السماء والبحر الذي في الأرض، ورتبت ألفاظ الآية على ذلك، وقال ابن عباس : البحر العذب هو مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج، ووقوعها فيه هو مرجها، قال: والبرزخ والحجر هو حاجز في علم الله تعالى لا يراه البشر، وقاله مجاهد ، وقالت [ ص: 446 ] فرقة: معنى "مرج": أدام أحدهما في الآخر، وقال الزجاج : على أحدهما على الآخر، ونحو هذا من الأقوال التي تتداعى. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
والذي أقول في الآية: إن القصد بها التنبيه على في أن بث في الأرض مياها عذبة كثيرة من أنهار وعيون وآبار، وجعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج خلالها، فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه، وتلقى الماء في البحر في الجزائر ونحوها- قد اكتنفه الماء الأجاج، فبثها هكذا في الأرض، هو خلطها، ومنه قوله: "مرج"، ومنه قدرة الله تعالى، وإتقان خلقه للأشياء، في أمر مريج .
و "البحران" يراد بهما جميع الماء العذب وجميع الماء الأجاج، كأنه قال: مرج نوعي الماء، فالبرزخ والحجر هما ما بين البحرين من الأرض واليبس، قاله ، ومنه القدرة التي تمسكها مع قرب ما بينهما في بعض المواضع. وبكسر الحاء قرأ الناس كلهم هنا، الحسن بضم الحاء في سائر القرآن، و "البرزخ": الحاجز بين الشيئين. والحسن
وقرأ الجمهور : "هذا ملح"، وقرأ : "وهذا ملح" بفتح الميم وكسر اللام، قال طلحة بن مصرف : هذا منكر في القراءة، قال أبو حاتم : أراد: مالحا، وحذف الألف، كعرد وبرد. و "الأجاج": أبلغ ما يكون من الملوحة. ابن جني
[ ص: 447 ] وقوله تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا الآية. هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك، وتعديد النعمة في التواشج الذي بينهم من النسب والصهر، وقوله: من الماء إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء، وإما أن يريد نطف الرجال، وكل ذلك قالته فرقة، والأول أفصح وأبين. و "النسب والصهر" معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين، فالنسب هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو في أم، قرب ذلك أو بعد ذلك، والصهر هو تواشج المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار يقع عاما لذلك كله، وقال رضي الله عنه: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، وقال علي بن أبي طالب : الصهر قرابة الرضاع. الضحاك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وذلك عندي وهم أوجبه أن رضي الله عنهما قال: ابن عباس ، وفي رواية أخرى: ومن الصهر سبع ، يريد قوله عز وجل: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت فهذا هو النسب، ثم يريد بالصهر قوله تبارك وتعالى: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ، ثم ذكر المحصنات، ويحتمل هذا أن رضي الله عنهما أراد: [ ص: 448 ] حرم من الصهر ما ذكر معه، فقصد بـ "ما ذكر" إلى عظمه وهو الصهر; لا أن الرضاع صهر، وإنما ابن عباس بحكم الحديث المأثور فيه، ومن روى: الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين، والمحصنات، وهن ذوات الأزواج.
وحكى قولا: أن النسب من جهة البنين، والصهر من جهة البنات. الزهراوي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا حسن وهو في درج ما قدمته، وقال : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، ابن سيرين رضي الله عنه; لأنه جمعه معه نسب وصهر. وعلي بن أبي طالب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فاجتماعهما وكاد حرمة إلى يوم القيامة.
وقوله: وكان ربك قديرا هي "كان" التي للدوام قبل وبعد، لا أنها تعطي مضيا فقط.
ثم ذكر تعالى خطأهم في عبادتهم أصناما لا تملك لهم ضرا ولا نفعا. وقوله: وكان الكافر على ربه ظهيرا فيه تأويلان: أحدهما أن "الظهير" المعين، فتكون الآية بمعنى توبيخهم على ذلك، من أن الكفار يعينون على ربهم غيرهم من الكفرة، ويعينون الشيطان بأن يطيعوه ويظاهروه، وهذا هو تأويل ، مجاهد ، والحسن . والثاني ذكره وابن زيد في أن يكون " الظهير" فعيلا من قولك: "ظهرت الشيء" إذا طرحته وراء ظهرك واتخذته ظهريا، فيكون معنى الآية على هذا التأويل احتقار الكفرة، و "الكافر" في هذه الآية اسم جنس، وقال الطبري رضي الله عنهما: بل هو معين أراد به ابن عباس أبا جهل بن هشام .
[ ص: 449 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويشبه أن أبا جهل سبب الآية، ولكن اللفظ عام للجنس كله.
وقوله تعالى: وما أرسلناك الآية، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: لا تهتم بهم، ولا تذهب نفسك حسرات حرصا عليهم، فإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة، وتنذر الكفرة بالنار، ولست بمطلوب بإيمانهم جميعا.
ثم أمره تعالى بأن يحتج عليهم مزيلا لوجوه التهم بقوله: ما أسألكم عليه من أجر ، أي: لا أطلب مالا ولا نفعا يختص بي. وقوله تعالى: إلا من شاء ، الظاهر فيه أنه استثناء منقطع، والمعنى: مسؤولي ومطلوبي من شاء أن يهتدي ويؤمن ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة فليفعل. وقال : المعنى: لا أسألكم أجرا إلا إنفاق المال في سبيل الله، فهذا هو المسؤول، وهو السبيل إلى الرب. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فالاستثناء -على هذا- كالمتصل، وكأنه قال: إلا أجر من شاء، والتأويل الأول أظهر.