[ ص: 657 ] بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة القدر
اختلف الناس في موضع نزول هذه السورة، فقال وغيره: هى مدنية، وقال ابن عباس : هي مكية. قتادة
قوله عز وجل:
إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر
الضمير في "أنزلناه" للقرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة المعنى عليه، فقال رضي الله عنهما وغيره: أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى السماء الدنيا جملة، ثم نجمه على ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وقال وغيره: المعنى: إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك ليلة القدر، وقد روي أن نزول الملك في الشعبي حراء كان في العشر الأواخر من رمضان، فيستقيم هذا التأويل، وقد روي أن نزول الملك في الرابع عشر من رمضان، فلا يستقيم هذا التأويل إلا على قول من يقول إن ليلة القدر تستدير الشهر كله ولا تختص بالعشر الأواخر من رمضان، وقال قوم: معنى قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر : إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفي فضلها، ولما كانت السورة من القرآن جاء الضمير للقرآن تفخيما وتحسينا.
وقوله تعالى: "في ليلة" هو على نحو قول رضي الله عنه: لقد خشيت أن ينزل في قرآن ليلة نزول سورة الفتح، ونحو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنها في حديث الإفك: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن، عائشة هي ليلة خصها الله تعالى بفضل عظيم، وجعلها أفضل من ألف شهر لا ليلة قدر فيها، قاله وليلة القدر وغيره، [ ص: 658 ] وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة لما رأى مجاهد محمد صلى الله عليه وسلم أعمار أمته فتقاصرها.
وقوله تعالى: وما أدراك ما ليلة القدر عبارة تفخيم لها، ثم أداره تعالى بعد بقوله: ليلة القدر خير من ألف شهر ، قال في صحيح ابن عيينة : ما كان في القرآن وما أدراك فقد أعلمه الله تعالى، وما كان فيه "وما يدريك" فإنه لم يعلم. البخاري
وذكر ابن عباس وغيرهما أنها سميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله، وقد روي مثل هذا في ليلة النصف من شعبان، ولهذا ظواهر من كتاب الله عز وجل، نحو قوله تعالى: وقتادة فيها يفرق كل أمر حكيم ، وأما الصحة المقطوع بها فغير موجودة، وقال معناه: ليلة القدر العظيم والشرف وعظم الشأن، من قولك: رجل له قدر، وقال الزهري : سميت ليلة القدر لأنها تكسب من أحياها قدرا عظيما لم يكن له قبل، وترده عظيما عند الله تعالى، وقيل: سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر خطير. أبو بكر الوراق
مستديرة في أوتار، العشر الأواخر من رمضان، هذا هو الصحيح المعول عليه، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر; لأن الأوتار مع كمال الشهر ليست الأوتار مع نقصانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وليلة القدر وقال عليه الصلاة والسلام: "لثالثة تبقى، لخامسة تبقى، لسابعة تبقى"، وقال "التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة [ ص: 659 ] والتاسعة"، : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، وقال مالك : يريد ابن حبيب : إذا كان الشهر ناقصا، فظاهر هذا أنه عليه السلام احتاط في كمال شهر ونقصانه، وهذا لا تتحصل معه الليلة إلا بعمارة العشر كله، وروي عن مالك وقوم أن ليلة القدر رفعت، وهذا قول مردود، وإنما رفع تعيينها، وقال أبي حنيفة : من يقم السنة كلها يصبها، وقال ابن مسعود أبو رزين: هي أول ليلة من شهر رمضان، وقال هي ليلة سبع عشرة، وهي التي كانت في صبيحتها وقعة الحسن: بدر، وقال كثير من العلماء: هي ليلة ثلاث وعشرين، وهي ليلة عبد الله بن أنيس الجهني، وقاله ، وقال أيضا هو وجماعة من الصحابة: هي ليلة سبع وعشرين، واستدل ابن عباس على قوله بأن الإنسان خلق من سبع، وجعل رزقه في سبع، واستحسن ذلك ابن عباس رضي الله عنهم، أجمعين، وقال عمر ، زيد بن ثابت : هي ليلة أربع وعشرين، وقال بعض العلماء: أخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها. وبلال
ثم عظم الله تعالى أمر ليلة القدر، على نحو قوله تعالى: وما أدراك ما الحاقة ، وغير ذلك. ثم أخبر تعالى أنها أفضل لمن عمل فيها عملا من ألف شهر، وهي ثمانون سنة [ ص: 660 ] وثلاثة أعوام وثلث عام. وروي عن رضي الله عنهما أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمر الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الله تعالى أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام لمعاوية بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وهي خير من مدة ملك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ثم كشف الغيب أن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي هذا القدر من الزمان بعينه، مع أن القول يعارضه أنه قد ملك بنو أمية في غرب الأرض مدة غير هذه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
و"الروح" هو جبريل عليه السلام، وقيل: هم صنف حفظة الملائكة عليهم السلام، وقوله تعالى: بإذن ربهم من كل أمر اختلف الناس في - فمن قال "إن في هذه الليلة تقدر الأمور للملائكة" قال: إن هذا التنزل لذلك، و"من" لابتداء الغاية، أي: نزولهم من أجل هذه الأمور المقدرة وبسببها، ويجيء "سلم" خبر ابتداء مستأنفا، أي: سلام هذه الليلة إلى أول يومها، وهذا قول نافع المقبري والفراء ، وقال بعضهم: "من" بمعنى "الباء"، أي: بكل أمر، ومن لم يقل "تقدر الأمور في تلك الليلة" قال: معنى الآية: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم بالرحمة والغفران والفواضل، ثم جعل قوله تعالى: "من كل أمر" متعلقا بقوله سبحانه: "سلام هي"، أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه فهي سلام، وقال وأبي العالية : لا يصيب أحدا فيها داء، وقال مجاهد الشعبي ومنصور: "سلام" بمعنى التحية، أي تسلم الملائكة على [ ص: 661 ] المؤمنين، وقرأ ، ابن عباس ، وعكرمة : "من كل امرئ "، أي: يسلم فيها من كل امرئ سوء، فهذا على أن "سلام" بمعنى "سلامة"، وروي عنه أن "سلاما" بمعنى "تحية"، "وكل امرئ" يراد بهم الملائكة، أي: من كل ملك تحية على المؤمنين، وهذا للعاملين بالعبادة فيها، وذهب من يقول بانتهاء الكلام في قوله تعالى: "سلام" إلى أن قوله تعالى: "هي" إنما هو إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر; إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة، وذكر هذا الغرض والكلبي ابن بكير، وأبو بكر الوراق، عن والنقاش . ابن عباس
وقرأ جمهور السبعة: "حتى مطلع" بفتح اللام، وقرأ ، الكسائي ، والأعمش ، وأبو رجاء وابن محيصن، : "حتى مطلع" بكسر اللام، فقيل: هما مصدران بمعنى واحد في لغة وطلحة بني تميم، وقيل: بالفتح مصدر وبالكسر موضع الطلوع عند أهل الحجاز، والقراءة بالفتح أوجه على هذا القول، والأخرى تتخرج على تجوز، كأن الوقت ينحصر في ذلك الموضع ويتم فيه، ويتجه الكسر على وجه آخر، وهو أنه قد شذ من هذه المصادر ما كسر، كالمعجزة وقولهم: علاه المكبر -بفتح الميم وكسر الباء- ومنه المحيض، فيجري "المطلع" مصدرا مجرى ما شذ. وفي حرف : "سلام هي إلى مطلع الفجر" . أبي بن كعب
كمل تفسير سورة [القدر] والحمد لله رب العالمين.