تفسير سورة الزلزلة
وهي مكية، قاله وغيره، وقال ابن عباس قتادة : هي مدنية لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا ومقاتل بالمدينة.
قوله عز وجل:
إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
العامل في: "إذا" على قول جمهور النحاة -وهو الذي يقتضيه القياس- فعل مضمر يقتضيه المعنى وتقديره: يحشرون إذا، أو تجازون، ونحو هذا، ويمتنع أن يعمل فيه "زلزلت" لأن معنى الشرط لا يفارقها، وقد تقدمت نظائرها في غير سورة.
"وزلزلت" معناه: حركت بعنف، ومنه الزلزال، وقوله تعالى: "زلزالها" أبلغ من قوله: "زلزالا" دون إضافة إليها، وذلك أن المصدر غير مضاف يقع على كل قدر من الزلزال وإن قل، وإذا أضيفت إليها وجب أن يكون على قدر ما يستحقه ويستوحيه جرمها وعظمها، وهكذا كما تقول: "أكرمت زيدا كرامة"، فذلك يقع على كل كرامة وإن [ ص: 667 ] قلت بحسب زيد"، فإذا قلت: "كرامته" أوجبت أنك قد وفيته حقه. وقرأ الجمهور: "زلزالها" بكسر الزاي الأولى، وقرأ بفتحها عاصم الجحدري، وهو أيضا مصدر كالوسواس ونحوه.
و"الأثقال": الموتى الذين في بطنها، قاله ، وهذه إشارة إلى البعث، وقال قوم من المفسرين -منهم ابن عباس منذر بن سعيد الزجاج -: أخرجت موادها وكنوزها. والنقاش
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وليست القيامة بموطن لإخراج الكنوز، وإنما تخرج كنوزها وقت الدجال. و"قول الإنسان: "ما لها" هو قول على معنى التعجب من هول ما يرى، قال جمهور المفسرين: الإنسان هنا يراد به الكافر، وهذا متمكن لأنه يرى ما لم يظن به قط ولا صدقه، وقال بعض المتأولين: هو عام في المؤمن والكافر، فالكافر على ما قدمناه، والمؤمن -وإن كان قد آمن بالبعث- فإنه استهول المرأى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ليس الخبر كالمعاينة".
و "إخبار الأرض" قال ابن مسعود وغيرهما: هو شهادتها بما عمل عليها من عمل صالح وفاسد، فالتحديث -على هذا- حقيقة، وكلام بإدراك وحياة يخلقها الله تعالى، وأضاف تعالى الأخبار إليها من حيث وعتها وحصلتها، وانتزع بعض العلماء من قوله تعالى: والثوري تحدث أخبارها أن قول المحدث: "حدثنا وأخبرنا" سواء، وقال وقوم: التحديث في الآية مجاز، والمعنى أن ما تفعله بأمر الله تعالى من إخراج أثقالها، وتفتت أجزائها، وسائر أحوالها، هو بمنزلة التحديث بأنبائها وأخبارها، ويؤيد القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: الطبري وقرأ "فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" : "تنبئ أخبارها"، وقرأ عبد الله بن مسعود : "تبين". سعيد بن جبير
[ ص: 668 ] قوله تعالى: بأن ربك أوحى لها الباء باء السبب. وقال ، ابن عباس ، وابن زيد والقرطبي: المعنى: أوحى إليها، وهذا الوحي -على هذا التأويل- يحتمل أن يكون وحي إلهام، ويحتمل أن يكون وحيا برسول من الملائكة، وقد قال الشاعر:
أوحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت
والوحي في كلام العرب: إلقاء المعنى إلقاء خفيا. وقال بعض المتأولين: "أوحى لها" معناه: أوحى إلى ملائكته المقربين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال. وقوله تعالى: "لها" بمعنى: من أجلها، ومن حيث الأفعال فيها فهي لها.
وقوله تعالى: يصدر الناس أشتاتا بمعنى: ينصرفون من موضع وردهم مختلفي الأحوال. وواحد "الأشتات" شت، فقال جمهور الناس: الورد هو الكون في الأرض بالموت والدفن، والصدر هو القيام للبعث، و"أشتاتا" معناه: قوم مؤمنون وقوم كافرون وقوم عصاة مؤمنون، والكل سائر إلى العرض ليرى عمله ويقف عليه، وقال : الورد هو المحشر، والصدر أشتاتا هو صدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار. النقاش
وقوله تعالى: ليروا أعمالهم إما أن يكون معناه: جزاء أعمالهم يراه أهل الجنة بالنعيم وأهل النار بالعذاب، وإما أن يكون قوله تعالى: ليروا أعمالهم متعلقا بقوله سبحانه: بأن ربك أوحى لها ، ويكون قوله تعالى: يومئذ يصدر الناس أشتاتا .
[ ص: 669 ] اعتراضا بين أثناء الكلام. وقرأ جمهور الناس: "ليروا" بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ الحسن، والأعرج وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة: "ليروا" بفتح الياء على بنائه للفاعل.
ثم أخبر تعالى أنه من عمل عملا رآه قليلا كان أو كثيرا، فخرجت العبارة عن ذلك بمثال التقليل، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، ومنه قوله تعالى: فلا تقل لهما أف ، وهذا كثير، وقال وبعض المفسرين: رؤية هذه الأعمال هي في الآخرة، وذلك لازم من لفظ السورة وسردها، فيرى الخير كله من كان مؤمنا، ابن عباس ، وكذلك المؤمن أيضا تعجل له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها فيجيء من مجموع هذا أن من عمل من المؤمنين مثقال ذرة من خير أو شر رآه، ويخرج من ذلك أن لا يرى الكافر خيرا في الآخرة. ومنه حديث والكافر لا يرى في الآخرة خيرا، لأن خيره قد عجل له في الدنيا رضي الله عنها، "قالت: عائشة عبد الله بن جدعان من البر وصلة الرحم وإطعام الطعام، أله في ذلك أجر؟ قال: لا، إنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" قلت يا رسول الله: أرأيت ما كان وقد نص على ذلك حين سئل عن الحمر ... الحديث، وأعطى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمي هذه الآية "الجامعة الفاذة"، سائلا ثمرتين [ ص: 670 ] فقبض السائل يده، فقال له سعد بن أبي وقاص سعد : ما هذا؟ إن الله تعالى قبل منا مثاقيل الذر، وفعلت نحو هذا رضي الله عنها في حبة عنب وسمع هذه الآية عائشة صعصعة بن عقال التميمي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حسبي، لا أبالي أن لا أسمع غيرها، وسمعها رجل عند فقال: انتهت الموعظة، فقال الحسن فقه الرجل. الحسن:
وقرأ هشام عن ، ابن عامر وأبو بكر عن : "يره" ، بسكون الهاء في الأولى والآخرة، وقرأ عاصم ، ابن كثير وحمزة ، والكسائي -فيما روى عنه ونافع - ورش والحلواني عن عنه في الأولى "يره"، وأما الآخرة فهو سكون وقف، وأما من أسكن الأولى فهي على لغة من يخفف، ومنه قول الشاعر: قالون
. . . . . . . . . . . ومطواي مشتاقان له أرقان
وهذه لغة لم يحكها لكن حكاها سيبويه ، وقرأ الأخفش وحده بضم الهاء فيها مشبعتان، وقرأ أبو عمرو عن أبان ، عاصم ، وابن عباس وأبو حيوة، وحميد بن الربيع عن : "يره" بضم الياء، وهي رؤية بصره، بمعنى: يجعل يدركه ببصره، والمعنى: [ ص: 671 ] يرى ثوابه وجزاءه لأن الأعمال الماضية لا ترى بعين أبدا، وهذا الفعل كله من "رأيت" بمعنى أدركت ببصري، فتعديه إنما هو إلى مفعول واحد، وقرأ الكسائي : "خيرا يراه" و"شرا يراه"، وقال عكرمة : ليست برؤية بصر; وإنما المعنى: يصيبه ويناله. النقاش
ويروى وأبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك رضي الله عنه الأكل وبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبو بكر ، ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله: أو أسأل عن مثاقيل الذر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ، ما رأيت في الدنيا مما تكره، فمثاقيل ذر الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير. أبا بكر أن هذه السورة نزلت
و"الذرة" نملة صغيرة حمراء رقيقة لا يرجح لها ميزان، ويقال: إنها تجري إذا مضى لها حول، وقد تؤول ذلك في قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
وحكى أنهم قالوا: كان النقاش بالمدينة رجلان أحدهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها، وكان الآخر يريد أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحي من الصدقة، فنزلت الآية فيهما، كأنه يقال لأحدهما: تصدق باليسير فإن مثقال ذرة الخير ترى، وقيل للآخر: كف عن الصغائر فإن مقادير ذر الشر ترى.
كمل تفسير سورة [ الزلزلة] والحمد لله رب العالمين.