تفسير سورة الشمس
وهي مكية.
قوله عز وجل:
والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها
أقسم الله تعالى بالشمس إما على التنبيه منها وإما على تقدير ورب الشمس، و"الضحى" بضم الضاد والقصر: ارتفاع الضوء وكماله، وبهذا فسر ، وقال مجاهد : هو النهار كله، وقال قتادة : مقاتل
ضحاها: حرها، كقوله تعالى في "طه" ولا تضحى ، و"الضحاء" بفتح الضاد والمد: ما فوق ذلك إلى الزوال.
والقمر يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغروب، تغرب هي ثم يغرب هو، ويتلوها في النصف الآخر بنحو آخر، وهي أن تغرب هي فيطلع هو. وقال "تلاها" معناه: تبعها دأبا في كل وقت; لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك. الحسن بن أبي الحسن:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا اتباع لا يختص بنصف أول من الشهر ولا بآخر، وقاله أيضا، وقال الفراء وغيره: "تلاها" معناه: امتلأ واستدار، فكان لها تابعا في المنزلة من الضياء [ ص: 628 ] والقدر; لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر، قال الزجاج : وإنما ذلك ليلة البدر تغيب هي فيطلع هو. قتادة
و"النهار" في ظاهر هذه السورة والتي بعدها أنه من طلوع الشمس، وكذلك قال في كتاب الأنواء وغيره. واليوم من طلوع الفجر، ولا يختلف أن نهايتهما مغيب الشمس، والضمير في الزجاج جلاها يحتمل أن يعود على الشمس، ويحتمل أن يعود على الأرض وعلى الظلمة، وإن كان لم يجئ لذلك ذكر فالمعنى يقتضيه، قاله ، وجلى معناه: كشف وضوأ، والفاعل لـ"جلى"-على هذه التأويلات- النهار، ويحتمل أن يكون الفاعل الله تعالى، كأنه قال: والنهار إذا جلى الله الشمس، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته. و يغشى معناه: يغطي، والضمير للشمس على تجوز في المعنى أو للأرض. الزجاج
وقوله تعالى: وما بناها وكل ما بعده من نظائره في السورة، يحتمل أن تكون "ما" فيه بمعنى "الذي" قال ، أي: ومن بناها، وهو قول أبو عبيدة الحسن ; لأن "ما" تقع عامة لمن يعقل ولما لا يعقل، فيجيء القسم بنفسه تعالى، ويحتمل أن تكون "ما" في جميع ذلك مصدرية، قاله ومجاهد ، قتادة ، والمبرد ، كأنه تعالى قال: والسماء وبنيانها. والزجاج
و "طحا" بمعنى "دحا" و"طحا" أيضا في اللغة بمعنى: ذهب كل مذهب، ومنه قول علقمة بن عبدة:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عمر حان مشيب
و"النفس" التي أقسم بها اسم الجنس، و"تسويتها" إكمال عقلها ونظرها، ولذلك ربط الكلام بقوله تعالى: فألهمها فجورها ... الآية، فالفاء تعطي أن التسوية هي هذا الإلهام، ومعنى قوله تعالى: فألهمها فجورها أي عرفها طرق ذلك وجعل لها [ ص: 629 ] قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى، وجواب القسم في قوله تعالى: قد أفلح ، والتقدير: لقد أفلح، والفاعل بـ "زكى" يحتمل أن يكون الله تعالى، وقاله وغيره كأنه تعالى قال: قد أفلحت الفرقة أو الطائفة التي زكاها الله تعالى، و"من": تقع على جمع وإفراد، ويحتمل أن يكون الفاعل بـ "زكى" الإنسان وعليه تقع من، وقاله الحسن وغيره، كأنه تعالى قال: قد أفلح من زكى نفسه، أي اكتسب الزكاة الذي التى قد خلقها الله تعالى له، و ابن عباس زكاها معناه: طهرها ونماها بالخيرات، و دساها معناه: أخفاها وحقرها، أي احتقر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب، يقال دسا يدسو، ودسى -بشد السين- يدسي، وأصله دسس، ومنه قول الشاعر:
ودسست عمرا في التراب فأصبحت ... حلائله يبكين للفقد ضعفا
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" ، وهذا الحديث يقوي أن المزكي هو الله تعالى، وقال معنى الآية: وقد خاب من دساها في أهل الخير بالرياء وليس منهم في حقيقته. ثعلب:
ولما ذكر تعالى صفة من دسى، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم وينتهي عن مثل فعلهم، و"الطغوى" مصدر، وقرأ الحسن، بن سليمان "بطغواها" بضم الطاء، مصدر كالعقبى والرجعى، وقال وحماد رضي الله عنهما: "الطغوى" هنا العذاب، [ ص: 630 ] كذبوا به حتى نزل بهم، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: ابن عباس فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ، وقال جمهور المتأولين الباء سببية، والمعنى كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها وكفرها، و"انبعث" عبارة عن خروجه إلى عقر الناقة بنشاط وحرص، و"أشقاها" هو قدار بن سالف وهو أحد التسعة الرهط المفسدين، ويحتمل أن يقع أشقاها على جماعة حاولت العقر، ويروى أنه لم يفعل فعله بالناقة حتى مالأه علي ذلك جميع الحي، فلذلك قال تعالى: فعقروها لكونهم متفقين على ذلك.
و"رسول الله" صالح عليه السلام، وقوله تعالى: ناقة الله وسقياها نصب بفعل مضمر تقديره احفظوا أو ذروا أو احذروا على معنى: احذروا الإخلال بحق ذلك، وقد تقدم أمر الناقة والسقيا في غير هذه السورة بما أغنى عن إعادتها، وقدم تعالى التكذيب على العقر لأنه كان سبب العقر، ويروى أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحا عليه السلام مدة ثم كذبوا وعثروا، والجمهور من المفسرين على أنهم كانوا على كفرهم. و"دمدم" معناه: أنزل العقاب مقلقا لهم مكررا ذلك وهي الدمدمة، وفي بعض المصاحف "فدهدم" وهي قراءة بالهاء بين الدالين، وفي بعضها "فدمر" ، وفي مصحف ابن الزبير "فدمدمها عليهم" ، وقوله تعالى: "بذنبهم" أي بسبب ذنبهم، وقوله تعالى: "فسواها"، معناه: فسوى القبيلة في الهلاك لم ينج منهم أحد. ابن مسعود
وقرأ نافع وابن عامر وأهل والأعرج الحجاز : "فلا يخاف" بالفاء وكذلك في مصاحف أهل وأبي بن كعب المدينة والشام، وقرأ الباقون "ولا يخاف" بالواو وكذلك في مصاحفهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: "ولم يخف عقباها"، والفاعل بـ "يخاف" على من قرأ "فلا يخاف" بالفاء يحتمل أن يكون الله تعالى، والمعنى فلا درك على الله تعالى في فعله بهم لا يسأل عما يفعل، وهذا قول ابن عباس ، وفي هذا المعنى احتقار للقوم وتعفية لأثرهم، ويحتمل أن يكون والحسن صالحا عليه السلام، أي لا يخاف عقبى الله بهذه الفعلة بهم; إذ كان قد أنذرهم وحذرهم، [ ص: 631 ] ومن قرأ "ولا يخاف" بالواو فيحتمل الوجهين اللذين ذكرنا، ويحتمل زائدا أن يكون الفاعل بـ "يخاف" أشقاها المنبعث، قاله الزجاج وأبو علي ، وهو قول السدي والضحاك ، وتكون الواو واو الحال، كأنه تعالى قال: انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه، و"العقبى": جزاء الشيء وخاتمته وما يجيء من الأمور بعقبه. ومقاتل
واختلف القراء في ألفات هذه السورة واللتين بعدها، ففتحها ، ابن كثير ، وعاصم ، وقرأ وابن عامر ذلك كله بالاضجاع، وقرأ الكسائي الكل بين الفتح والإمالة، وقرأ نافع : "وضحاها" مكسورة و"تلاها" و"طحاها" مفتوحتين، وكسر ما عدا ذلك، واختلف عن حمزة ، فمرة كسر الجميع، ومرة كقراءة أبي عمرو ، قال نافع : سمى الناس الإمالة كسرا وليس بكسر صحيح، الزجاج والخليل يقولان: إمالة. وأبو عمرو
كمل تفسير سورة [الشمس] والحمد لله رب العالمين