تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به، وتوجب الإقرار بألوهيته. و "البروج" هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة، وهي الشهور عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات، وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تبارك وتعالى في قوله: والقمر قدرناه منازل ، والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجا تشبيها ببروج السماء، ومنه قوله تبارك وتعالى: ولو كنتم في بروج مشيدة ، وقال : الأخطل
كأنها برج رومي يشيده بان بجص وآجر وأحجار
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها: البروج: القصور في الجنة، وقال : كان أصحاب الأعمش يقرؤونها: "في السماء قصورا"، وقيل: البروج: الكواكب العظام، حكاه عبد الله عن الثعلبي أبي صالح ، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص، والقول بأنها قصور في الجنة يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به.
[ ص: 453 ] وقرأ الجمهور : "سراجا"، وهي الشمس، وقرأ ، حمزة ، والكسائي ، وعبد الله بن مسعود ، وعلقمة : "سرجا"، وهو اسم جميع الأنوار، وقد خص القمر بالذكر تشريفا، وقرأ والأعمش ، النخعي ، وابن وثاب أيضا: "سرجا" بسكون الراء، قال والأعمش ، روى أبو حاتم عصمة عن : "وقمرا" بضم القاف ساكنة الميم، ولا أدري ما أراد إلا أن يكون جمعا كثمر وثمر، وقال الحسن : وهي قراءة أبو عمرو ، الأعمش . والنخعي
وقوله: "خلفة" أي: هذا يخلف هذا، ومن المعنى قول زهير :
بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا :
ولهـا بالمـاطـرون إذا أكـل النمـل الـذي جمعـا
خلفـة حتـى إذا ارتبعت سكنـت مـن جلـق بيعــا
في بيـوت وسط دسكرة حـولهـا الزيتـون قـد ينعـا
[ ص: 454 ] وقال : "خلفة" من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، نحو ما قدمناه، وقال مجاهد وغيره: مجاهد لمن أراد أن يذكر أي: يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تبارك وتعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم، وقال رضي الله عنه، عمر بن الخطاب ، والحسن : معناه: لمن أراد أن يذكر ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ وابن عباس وحده: "يذكر" بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة حمزة ، ابن وثاب ، وطلحة ، وقرأ الباقون: "يذكر" بشد الذال، وفي مصحف والنخعي : "يتذكر" بزيادة تاء. أبي بن كعب
ثم لما قال تعالى: لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور، و "العباد" و "العبيد" بمعنى، إلا أن العباد تستعمل في مواضع التنويه، وسمي قوم من عبد القيس العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب ، وقيل: لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله، وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي ، وقرأ : الحسن وعبد الرحمن ، ذكره . الثعلبي
وقوله تبارك وتعالى: الذين يمشون خبر ابتداء، والمعنى: وعباده حق عباده هم الذين يمشون، وقوله: يمشون على الأرض هونا عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك المعظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض معاشرة الناس وخلطتهم. ثم قال: "هونا" بمعنى أمره كله هون، أي لين حسن، قال : بالحلم والوقار، وقال مجاهد رضي الله عنهما: بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال ابن عباس : حلما، إن جهل عليهم لم يجهلوا، وذهبت فرقة إلى أن "هونا" مرتبط بقوله تعالى: الحسن يمشون على الأرض أي المشي هو الهون، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل; لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئيب أطلس، وقد ، وقوله عليه الصلاة والسلام: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب، وهو عليه الصلاة والسلام الصدر [ ص: 455 ] في هذه الآية من مشى منكم في طمع فليمش رويدا إنما أراد في عقد نفسه، ولم يرد المشي وحده، ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم :
كلهم يمشي رويـد كلهم يطلـب صيـد
وقال : سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه. الزهري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
يريد الإسراع الحثيث; لأنه يخل بالوقار، والخير في التوسط، وقال : كنت أسأل عن تفسير قوله تبارك وتعالى: زيد بن أسلم الذين يمشون على الأرض هونا فما وجدت في ذلك شفاء، فرأيت في النوم من جاءني فقال لي: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا للتفسير في الخلق. و "هونا" معناه: رفقا وقصدا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الحديث، وقوله: أحبب حبيبك هونا ما وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . اختلفوا في تأويل ذلك، فقالت فرقة: ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل: "سلاما" بهذا اللفظ، أي: سلمنا سلاما وتسليما ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين. والذي أقول: إن قوله: "قالوا" هو العامل في "سلاما"; لأن المعنى: قالوا هذا اللفظ، وقال : معنى "سلاما": قولا سدادا، أي: يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين، فقالوا في هذا التأويل: العامل في قوله "سلاما" على طريقة النحويين، وذلك أنه بمعنى: قولا، وهذه الآية كانت قبل آية السيف، فنسخ منها ما يخص الكفرة، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكر مجاهد النسخ في [ ص: 456 ] هذه الآية في كتابه، وما تكلم على نسخ سواه، ورجح به أن المراد السلامة لا التسليم; لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على غير المسلمين، والآية مكية نسختها آية السيف. سيبويه
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ورأيت في بعض [مصاحف] التواريخ أن إبراهيم بن المهدي -وكان من المائلين على رضي الله عنه- قال يوما بمحضر علي بن أبي طالب المأمون -وعنده جماعة-: كنت أرى رضي الله عنه في النوم، فكنت أقول له: من أنت؟ فيقول: أنا علي بن أبي طالب ، فكنت أجيء معه إلى قنطرة، فيذهب يتقدمني في عبورها، فكنت أقول له: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة، ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، فقال علي بن أبي طالب المأمون : وبماذا جاوبك؟ قال: فكان يقول لي: سلاما سلاما، قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية، أو ذهبت عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمون على الآية أمام من حضره، وقال: هو والله يا عم رضي الله عنه، وقد جاوبك بأبلغ جواب، فحزن علي بن أبي طالب إبراهيم واستحيا، وكانت رؤياه لا محالة صحيحة.