قوله عز وجل:
وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون
قرأ ، نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر وشيبة : "فتوكل" بالفاء، وكذلك في مصاحف [ ص: 511 ] أهل المدينة والشام ، والجمهور بالواو، وكذلك في سائر المصاحف، وأمره تعالى بالتوكل عليه في كل أمره، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل، وهي العزة والرحمة المذكورتان في أواخر قصص الأمم المذكورة في هذه السورة وضمنها نصر كل نبي على الكفرة، والتهمم بأمره والنظر إليه.
وقوله تعالى: الذي يراك حين تقوم عبارة عن إدراك، وظاهر الآية أراد قيام الصلاة، ويحتمل أنه يريد سائر التصرفات، وهو تأويل مجاهد ، وقوله: وقتادة في الساجدين أي: في أهل الصلاة، أي صلاتك مع المصلين، قاله ابن عباس وغيرهما، وقال أيضا وعكرمة : تقليب أعينك وأبصارك الساجدين حين تراهم من وراء ظهرك. مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا معنى أجنبي هنا،.
وقال -رضي الله عنهما- أيضا ابن عباس : أراد: تقلبك في المؤمنين، فعبر عنهم بالساجدين. وقال وقتادة : أراد الأنبياء: أي: تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء. ابن جبير
وقوله تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، هنا استفهام وتوقيف تقرير، و "الأفاك": الكذاب، و "الأثيم": الآثم، ويريد الكهنة لأنهم كانوا يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء فيخلطون معها مائة كذبة، فإذا صدقت تلك الكلمة كانت سبب ضلالة لمن سمعها. وقوله: "يلقون" يعني الشياطين، ومقتضى ذلك أن الشيطان المسترق أيضا كان يكذب إلى ما سمع، هذا في الأكثر، ويحتمل الضمير في "يلقون" -أي يكذبون- للكهنة.
ولما ذكر الكهنة بإفكهم وكذبهم الذي يقتضي نفي كلامهم عن كلام الله تعالى عقب [ ص: 512 ] ذلك بذكر الشعراء وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام الله تعالى في القرآن، إذ قال في القرآن بعض الكفرة: إنه شعر، وهذه الكناية عن شعر الجاهلية، حكى عن النقاش أنها في السدي ابن الزبعرى ، وأبي سفيان بن الحرث ، وهبيرة بن أبي وهب ، ومسافع الجمحي ، وأبي عزة ، وأمية بن أبي الصلت .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
والأولان ممن تاب وآمن رضي الله عنهما، ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو أو يمدح شهوة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور.
وقرأ "يتبعهم" بسكون التاء وفتح الباء، وهي قراءة نافع أبي عبد الله ، -بخلاف عنه-، وقرأ الباقون بشد التاء وكسر الباء. والحسن
واختلف الناس في قوله: "الغاوون"، فقال رضي الله عنهما: هم الرواة، وقال أيضا: هم المستحسنون لأشعارهم، المصاحبون لهم، وقال ابن عباس : هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر، وهذا أرجح الأقوال. وقال عكرمة مجاهد : "الغاوون": الشياطين. وقوله تعالى: وقتادة في كل واد يهيمون عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن، قاله -رضي الله عنهما- وغيره. ابن عباس
وقوله تعالى: وأنهم يقولون ما لا يفعلون ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب، ولكن في هذا اللفظ عذر لبعضهم أحيانا، فإنه يروى أن النعمان بن عدي لما ولاه رضي الله عنه عمر بن الخطاب ميسان ، وقال لزوجته الشعر المشهور عزله رضي الله عنه، فاحتج عليه بقوله تعالى: عمر وأنهم يقولون ما لا يفعلون فدرأ عنه رضي الله عنه الحد في الخمر . وروى عمر عن [ ص: 513 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: جابر بن عبد الله من مشى سبع خطوات في شعر كتب من الغاوين ، ذكره أسد بن موسى ، وذكره . النقاش