قوله عز وجل:
وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين
أمره الله تعالى بهذين الأمرين تدريبا له في استعمالهما، وفي الكلام حذف تقديره: "فألقى موسى العصا"، فلما رآها تهتز . وأمال "رآها" بعض القراء، و "الجان": الحيات; لأنها تخفي أنفسها، أي: تسترها، وقالت فرقة: "الجان": صغار الحيات، وعصا موسى عليه السلام صارت حية ثعبانا وهو العظيم، وإنما شبهت بالجان في سرعة الاضطراب; لأن الصغار أكثر حركة من الكبار، وعلى كل قول فإن الله تبارك وتعالى خلق في العصا وغير أوصافها وأعراضها فصارت حية. وقرأ ، الزهري : "جأن" بالهمز. وعمرو بن عبيد
فلما أبصر موسى عليه السلام هول ذلك المنظر ولى مدبرا ولم يعقب ، قال : لم يرجع، وقال مجاهد : ولم يلتفت. قتادة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وعقب الرجل: إذا ولي عن أمر ثم صرف بدنه أو وجهه إليه كأنه انصرف على [ ص: 521 ] عقبيه، وناداه الله مؤنسا ومقويا على الأمر: يا موسى لا تخف فإن رسلي الذين اصطفيتهم للنبوة لا يخافون عندي ومعي، فأخذ موسى عليه السلام الحية فرجعت عصاه، ثم صارت له عادة.
واختلف الناس في الاستثناء في قوله تعالى: إلا من ظلم ، فقال وغيره: الاستثناء متصل، وهو من الأنبياء، وروى مقاتل أن الله تعالى قال الحسن لموسى : أخفتك لقتلك النفس، وقال أيضا: كانت الأنبياء تذنب فتعاقب، ثم تذنب -والله- فتعاقب، فكيف بنا؟، وقال الحسن : لا يخيف الله تعالى الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه، قال كثير من العلماء: لم يعرف أحد من البشر لهم من ذنب إلا ما روي عن ابن جريج يحيى بن زكريا عليهما السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وأجمع العلماء أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، واختلف فيما عدا هذا، فعسى أن يشير الحسن إلى ما عدا ذلك. وابن جريج
وفي الآية -على هذا التأويل- حذف اقتضى الإيجاز والفصاحة ترك نصه، تقديره: فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء. وقال وجماعة: الاستثناء منقطع، وهو إخبار عن غير الأنبياء، كأنه قال: من ظلم من الناس ثم تاب فإني غفور رحيم، وقالت فرقة: "إلا" بمعنى الواو. الفراء
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا قول لا وجه له. وقرأ ، أبو جعفر بن القعقاع : "ألا من [ ص: 522 ] ظلم" على الاستفتاح. وقوله تعالى: وزيد بن أسلم ثم بدل حسنا معناه: عملا صالحا مقترنا بتوبة، وهذه الآية تقتضي حتم المغفرة للتائب، وأجمع الناس على ذلك في التوبة من الشرك، وأهل السنة في التائب من المعاصي، على أنه في المشيئة كالمصر، لكن يغلب الرجاء على التائب والخوف على المصر، وقوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء عمت الجميع من التائب والمصر، ولا فرق بين المشرك وغيره; لأنه يذهب فائدته، إذ الشرك يغفر للتائب، وما دونه كذلك على تأويلهم، فما فائدة التفصيل في الآية، وهذا الاحتجاج لازم فتأمله. وروي عن أنه قرأ: "حسنا بعد سوء" بفتح الحاء والسين، وهي قراءة أبي عمرو ، مجاهد ، وقرأ وابن أبي ليلى محمد بن عيسى الأصبهاني : "حسنى" مثل فعلى.
ثم أمر الله تعالى موسى عليه السلام بأن يدخل يده في جيب جبته لأنها لم يكن لها كم كما قال رضي الله عنهما، وقال ابن عباس : مدرعة صوف إلى بعض يده، و "الجيب": الفتح في الثوب لرأس الإنسان، وروي أن يد مجاهد موسى عليه السلام كانت تخرج كأنها قطعة نور تلألأ، ومعنى إدخال اليد في الجيب ضم الآية إلى موسى ، وإظهار تلبسها به; لأن المعجزات من شروطها أن يكون لها اتصال بالرائي. وقوله تعالى: من غير سوء أي: من غير برص ولا علة، وإنما هي آية تجيء وتذهب، وقوله: وأدخل يدك في متصل بقوله: "ألق" و "أدخل"، وفيه اقتضاب وحذف، تقديره: تمهد وتيسر لك ذلك في جملة تسع آيات، وهي: العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس، والحجر، وفي هذين الأخيرين اختلاف، والمعنى: يجيء بهن إلى فرعون وقومه.