أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون
وقفهم في هذه الآيات على المعاني التي يتبين لكل عاقل أنه لا مدخل لصنم ولا لوثن فيها، فهي عبر ونعم، فالحجة قائمة بها من الوجهين.
وقوله تعالى: يجيب المضطر معناه: بشرط أن يشاء على المعتقد في الإجابة، لكن المضطر لا يجيبه متى أجيب إلا الله عز وجل، و "السوء" عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده. وقرأ : "ويجعلكم" بياء على صيغة المستقبل، ورويت عنه بنون. وكل قرن خلف للذي قبله، وقرأ الجمهور : "تذكرون" بالتاء على المخاطبة، وقرأ الحسن وحده، أبو عمرو ، والحسن بالياء على الغيبة. و "الظلمات" عام لظلمة الليل التي هي الحقيقة في اللغة، ولظلم الجهل والضلال والخوف التي هي مجازات وتشبيهات، وهذا كقول الشاعر: والأعمش
تجلت عمايات الرجال عن الصبا
[ ص: 552 ] وكما تقول: أظلم الأمر وأنار، وقد تقدم اختلاف القراء في قوله: "بشرا"، وقرأ وغيره: "يشركون" بالياء على الغيبة، وقرأ الجمهور : "تشركون" على المخاطب. الحسن
و "بدء الخلق" اختراعه وإيجاده، و "الخلق": هنا المخلوق من جميع الأشياء، لكن المقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة والبعث من القبور، ويحتمل أن يريد بـ "الخلق" مصدر: خلق يخلق، ويكون "يبدأ" و "يعيد" استعارة للإتقان والإحسان، كما تقول: فلان يبدئ ويعيد في أمر كذا وكذا، أي يتقنه. و "الرزق" من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، هذا مشهور ما يحسه البشر، وكم لله تبارك وتعالى من لطف خفي.
ثم أمر عز وجل نبيه أن يوقفهم على أن الغيب مما انفرد به الله عز وجل، ولذلك سمي غيبا لغيبه عن المخلوقين، ويروى أن هذه الآية من قوله: قل لا يعلم إنما نزلت لأن الكفار سألوا وألحوا عن وقت القيامة التي يعدهم، فنزلت هذه الآية بالتسليم لأمر الله تعالى وترك التحديد، وأعلم عز وجل أنه لا يعلم وقت الساعة سواه، فجاء بلفظ يعم السامع وغيره، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون أيان يبعثون، وبهذه الآية احتجت رضي الله تعالى عنها على قولها: ومن زعم أن عائشة محمدا يعلم الغيب فقد أعظم على الله الفرية . والمكتوبة في قوله: " إلا الله " بدل من "من". وقرأ [ ص: 553 ] جمهور الناس: "أيان" بفتح الهمزة، وقرأ : "إيان" بكسرها، وهما لغتان. أبو عبد الرحمن السلمي
وقرأ جمهور الناس: "بل ادارك"، أصله: تدارك، أدغمت التاء في الدال بعد أن أبدلت، ثم احتيج إلى ألف الوصل، وقرأ : "تدارك" فيما روي عنه، وقرأ أبي بن كعب -في رواية عاصم -: "بل ادرك" على وزن افتعل، وهي بمعنى تفاعل، وقرأ أبي بكر ، سليمان بن يسار : "بل ادرك" بفتح الام ولا همز، وبتشديد الدال دون ألف، وقرأ وعطاء بن يسار ، ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأهل وأبو جعفر مكة : "بل [ ص: 554 ] أدرك" وفي مصحف : "أم تدارك علمهم"، وقرأ أبي بن كعب رضي الله عنهما: "بل أدرك"، وقرأ ابن عباس أيضا: "بل آدارك" بهمزة ومدة على جهة الاستفهام، وقرأ ابن عباس ابن محيصن : "بل آدرك" على الاستفهام، ونسبها إلى أبو عمرو الداني ابن عباس . والحسن
فأما قراءة الاستفهام فهي على معنى الهزء بالكفرة، والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم، أي: أعلموا أمر الآخرة وأدركها علمهم؟ وأما القراءة الأولى فتحتمل معنيين: أحدهما: بل أدرك علمهم، أي: تناهى، كما تقول: أدرك النبات وغيره، وكما تقول: هذا ما أدرك علمي من كذا وكذا، فهذا قد تتابع وتناهى علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقدارا فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة، أو ألا يعرفوا لها وقتا، وكذلك ادارك وتدارك وسواها، وإن حملت هذه القراءة معنى التوقيف والاستفهام ساغ، وجاء [ ص: 555 ] إنكارا لأن أدركوا شيئا نافعا، والمعنى الثاني: بل أدرك بمعنى يدرك، أي أنهم في الآخرة يدرك علمهم وقت القيامة، ويروا العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا فلا. وهذا تأويل رضي الله عنهما، ونحا إليه ابن عباس ، فقوله: الزجاج في الآخرة -على هذا التأويل- ظرف، وعلى التأويل الأول في بمعنى الباء، والعلم قد يتعدى بحرف الجر، تقول: علمي يزيد كذا، ومنه قول الشاعر:
وعلمي بأسوام المياه ............
ثم وصفهم عز وجل بأنهم في شك منها، ثم أردفهم بصفة أبلغ من الشك وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، و "عمون" أصله "عميون" فعلون كحذرون وغيره.