فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون .
الالتقاط: اللقاء على غير قصد، ومنه قول الشاعر :
ومنهل وردته التقاطا
لم ألق إذ وردته فراطا
و آل فرعون : أهله، ويروي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في اليم فأمرت بسوقه وفتحه، فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته، وقال : إن جواريها كان لهن فرضة في القصر على النيل، يدخل الماء فيها إلى القصر حتى ينلنه في المرافق والمنافع، فبينا هن يغسلن في تلك الفرضة إذ جاء التابوت فحملنه إلى مولاتهن، وقال السدي : رآه ابن إسحاق فرعون يعوم فأمر بسوقه، وآسية جالسة معه، فكان ما تقدم.
وقوله تعالى: ليكون لهم عدوا هي لام العاقبة، لا أن القصد بالالتقاط كان لأن يكون عدوا، وقرأ الجمهور : "وحزنا" بفتح الحاء، وقرأ ، حمزة ، والكسائي ، وابن وثاب ، وطلحة : "وحزنا" بضم الحاء وسكون الزاي، و "الخاطئ": متعمد الخطأ، والمخطئ: الذي لا يتعمده. والأعمش
[ ص: 573 ] واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون : قرت عين لي ولك ، فقالت فرقة: كان ذلك عند التقاط التابوت لما أشعرت فرعون به; إذ سبق إلى وهمه أنه من بني إسرائيل، وأن ذلك قصد به التخلص من الذبح، فقال: علي بالذباحين، فقالت امرأته ما ذكر، فقال فرعون : أما لي فلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قال: نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له ، وقال : بل ربته حتى درج، فرأى السدي فرعون فيه شهامة، وظنه من بني إسرائيل، وأخذه في يده، فمد موسى عليه السلام يده ونتف لحية فرعون ، فهم حينئذ بذبحه، وحينئذ خاطبته بهذا، واختبرته له في الجمرة والياقوتة فاحترق لسانه. وقوله: وهم لا يشعرون أي بأنه الذي يفسد الملك على يديه، قاله وغيره. وقرأ قتادة : "لا تقتلوه قرة عين لي ولك"، قدم وأخر. ابن مسعود
وقوله: "وأصبح" عبارة عن دوام الحال واستقرارها، وهي كظل، ومنه قول أبي سفيان يوم الفتح: لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، يريد: استقر به حاله عظيما، وقرأ جمهور الناس: "فارغا" من الفراغ، واختلف في معنى ذلك، فقال للعباس رضي الله عنهما: فارغا من كل شيء إلا من ذكر ابن عباس موسى عليه السلام ، وقال : هو ذهاب العقل. مالك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
كقوله تعالى: وأفئدتهم هواء . وقالت فرقة: فارغا من الصبر، وقال : فارغا من وعد الله تبارك وتعالى ووحيه إليها، أي: تناسته بالهم، وفتر أثره في نفسها، وقال لها إبليس: فررت به من قتل لك فيه أجر، وقتلته بيدك، وقال ابن زيد : فارغا من الحزن; إذ لم يغرق، وقرأ أبو عبيدة فضالة بن عبيد -ويقال: ابن عبيدة -، : [ ص: 574 ] "فزعا" من الفزع -بالفاء والزاي-، وقرأ والحسن رضي الله عنهما: "قرعا" بالقاف والراء، من القارعة، وهي الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابة رضي الله عنهم: "فرغا" بالفاء المكسورة والراء الساكنة والغين المنقوطة، ومعناها: ذاهبا هدرا تالفا من الهم والحزن، ومنه قول ابن عباس طليحة الأسدي :
فإن يك قتلى قد أصيبت نفوسهم فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال
أي: هدرا تالفا لا ينفع. وقرأ : "فرغا" بضم الفاء والراء. الخليل بن أحمد
وقوله تعالى: إن كادت لتبدي به أي أمر ابنها، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كادت أم موسى أن تقول: وا ابناه، وتخرج صائحة على وجهها . "والربط على القلب" تأنيسه وتقويته، ومنه قولهم للشجاع والصابر في المضايق: رابط الجأش، قال : وربط على قلبها بالإيمان. وقوله تعالى: قتادة لتكون من المؤمنين أي: من المصدقين بوعد الله تبارك وتعالى، وبما أوحى إليها به.
ثم قالت لأخت موسى طمعا منها وطلبا له: "قصيه"، والقص: طلب الأثر، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث متخفية، فرأته عند قوم من حاشية آل فرعون [ ص: 575 ] يطلبون له امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع، و عن جنب أي: ناحية من غير قصد ولا قرب يشعرها به، ويقال: "عن جنابة" و "عن جناب"، ومنها قول الشاعر:
لقد ذكرتني عن جناب حمامة بعسفان أهلي والفؤاد حزين
ومن الجنابة قول الأعشى :
أتيت حريثا زائرا عن جنابة وكان حريث عن عطائي جامدا
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ومعنى هذه الألفاظ: عن مكان جنب، أو عن بعد، ومعنى الآية: عن بعد، لم تدن منه فيشعر بها، وأنشد أبو عبيدة لعلقمة :
فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
وقرأ : "عن جنب" بفتح الجيم وسكون النون، وهي قراءة قتادة ، الحسن ، وقرأ "عن جانب" والأعرج النعمان بن سالم ، وقرأ الجمهور : "عن جنب" بضم الجيم والنون.
[ ص: 576 ] وقوله: وهم لا يشعرون معناه: لا يشعرون أنها أخته، وهذا من جملة لطائف الله تبارك وتعالى له ولأمه حسب الوعد الذي أوحي إليها. ويقال: بصرت الشيء وأبصرت بمعنى واحد متقارب، قال المهدوي : وقيل: "عن جنب" معناه: عن شوق، وهي لغة لجذام، يقولون: جنبت إلى لقائك، أي اشتقت إليه، وقال : معنى "عن جنب" أنها تنظر إليه كأنها تريده. قتادة