قوله عز وجل:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين
هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يراد به إخبار جميع العالم وحضهم على السعي بحسب ما تضمنته الآية، وهذا الحض يتضمن الإنحاء على حال قارون ونظرائه، والمعنى أن الآخرة ليست في شيء من أمر قارون ، إنما هي لمن صفته كذا وكذا، و "العلو" المذموم، وهو الظلم والتجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك أن تريد أن يكون [ ص: 619 ] شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك ، و "الفساد" يعم الوجوه من الشر، ومما قال العلماء: هو أخذ المال بغير حق، وقوله: والعاقبة للمتقين خبر منفصل.
وقوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها معناه: إما في الدنيا وإما في الآخرة ولا بد، ففي وصف أمر جزاء الآخرة أنه من عمل صالحا فله خير من القدر الذي يقتضي النظر أنه مواز لذلك الفعل، هذا على أن نجعل الحسنة في التفضيل، وفي القول حذف مضاف، أي: من ثوابها الموازي لها، ويحتمل أن تكون "من" لابتداء الغاية، أي: له خير بحسب حسنته ومن أجلها، وأخبر تبارك وتعالى أن السيئة لا يضاعف جزاؤها فضلا منه ورحمة.
وقوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك ، معناه: أنزله عليك وأثبته، والفرض أصله عمل فرضه في عود أو نحوه، فكأن الأشياء التي تثبت وتمكن وتبقى تشبه ذلك الفرض. وقال : معناه: أعطاك القرآن، وقالت فرقة: في هذا القول حذف مضاف، والمعنى: فرض عليك أحكام القرآن. مجاهد
واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: لرادك إلى معاد ، فقال جمهور المتأولين: أراد: إلى الآخرة، أي: باعثك بعد الموت، فالآية -على هذا- مقصدها إثبات الحشر، والإعلام بوقوعه. وقال ، ابن عباس رضي الله عنهم: وغيرهما: المعاد: الجنة، وقال وأبو سعيد الخدري أيضا وجماعة: المعاد: الموت. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فكأن الآية -على هذا- واعظة ومذكرة.
[ ص: 620 ] وقال أيضا ابن عباس : المعاد ومجاهد مكة ، وهذه الآية نزلت بالجحفة ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فالآية -على هذا- معلمة بغيب قد ظهر للأمة، ومؤنسة بفتح، و "المعاد": الموضع الذي يعاد إليه، وقد اشتهر به يوم القيامة لأنه معاد للكل.
وقوله تعالى: قل ربي أعلم الآية، آية متاركة للكفار وتوبيخ. وأسند في تفسير قوله تعالى: الطبري لرادك إلى معاد قال: الجنة، وسماها معادا إما من حيث قد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج وغيره، وإما من حيث قد كان فيها آدم عليه السلام ، فهي معاد لذريته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وإنما قال هذا من حيث تعطي لفظة "المعاد" أن المخاطب قد كان في حال يعود إليها، وهذا وإن كان مما يظهر في اللفظة فيتوجه أن يسمى معادا ما لم يكن المرء فيه مجوزا; ولأنها أحوال تابعة للمعاد الذي هو النشور من القبور.
قوله عز وجل: وما كنت ترجو الآية. قال بعض المفسرين: هذا ابتداء كلام مضمنه تقدير النعمة على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله تبارك وتعالى رحمه رحمة لم يحتسبها ولا بلغها أمله، وقال بعضهم: بل قوله تعالى: وما كنت ترجو الآية كلام معلق بقوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن أي: وأنت بحال من لا يرجو ذلك. وقوله تعالى: يلقى إليك عبارة عن إعلان النبوة وتبليغ القرآن، كما تقول: ألقى فلان إلى فلان بالرياسة، ونحو هذا، وقوله تعالى: إلا رحمة من ربك نصب على استثناء منقطع، و "الظهير": المعين، أي: اشتد يا محمد في تبليغك، ولا تلن، ولا تفشل، فتكون معونته للكافرين بهذا الوجه، أي: بالفتور عنهم.