وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين
روي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة ، وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش ، قالوا لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم: ادخلوا في أمرنا، وأقروا بآلهتنا واعبدوها، ونحن ليقيننا أنه لا بعث بعد الموت ولا رجوع نضمن لكم حمل خطاياكم، ونحملها عنكم فيما دعوناكم إليه إن كان في ذلك درك كما تزعمون أنتم، وقولهم: "ولنحمل" إخبار أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل، ولكنهم أخرجوه في صيغة الأمر لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازات، وهذا نحو قال الشاعر :
فقلت ادعي وأدع فإن أندى لصوت أن ينادي داعيان
[ ص: 630 ] ولكونه خبرا حسن تكذيبهم فيه، فأخبر الله عز وجل أن جميع ذلك باطل، وأنهم لو فعلوه لم يتحمل عن أحد من هؤلاء المغترين بهم شيء من خطاياه التي تختص به.وقرأ الجمهور : "ولنحمل" بجزم اللام، وقرأ عيسى ونوح القاري : "ولنحمل" بكسر اللام. وقرأ : "من خطيهم" بكسر الياء وفتح الطاء، وحكى عنه داود بن أبي هند أنه قرأ: "من خطيئاتهم" بكسر الطاء وهمزة وتاء بعد الألف. وقال أبو عمرو : الحمل هو من الحمالة لا من الحمل على الظهر. مجاهد
ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفرة أنهم يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، أي: أثقالا من كفرهم الذي يخترعونه ويتلبسون به، وأثقالا مع أثقالهم يريد: ما يلحقهم من أعوانهم وأتباعهم، فإنه يلحق بكل داع إلى ضلالة كفل منها حسب الحديث المشهور، ..... الحديث. أيما داع إلى هدى فاتبع عليه فله مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا، وأيما داع دعا إلى ضلالة
[ ص: 631 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وإنما كانت مع أثقالهم لكونها بسبب غيرهم وعن غير كفر تلبسوه، فرق بينها وبين أثقالهم، ولم ينسبها إلى غيرهم، بل جعلها في رتبة أخرى فقط، فهم فيها إنما يزرون بوزر أنفسهم، وقد يترتب حمل أثقال الغير بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: . وقوله تعالى: "وليسئلن" على جهة التوبيخ والتقريع، لا على جهة الاستفهام والاستعلام، و "يفترون" معناه: يختلقون من الكفر ودعوى الصاحبة والولد وغير ذلك لله عز وجل. فإن لم يبق للظالم أخذ من سيئات المظلوم فاطرح فطرح عليه
وقوله تعالى: ولقد أرسلنا نوحا الآية. قصة فيها تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عما تضمنته الآيات قبلها من تعنت قومه، وفتنتهم للمؤمنين وغير ذلك، وفيها وعيد لهم بتمثيل أمرهم بأمر قوم نوح ، والواو في قوله "ولقد" عاطفة جملة كلام على جملة كلام، والقسم فيها بعيد. وقوله تعالى: "أرسلنا"، "فلبث"، هذا العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولا يدعو، وقد يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته، من لدن مولده إلى غرق قومه، وأما على التأويل الأول فاختلف في سنه التي بعث عندها، فقيل: أربعون، وقيل: ثمانون، وقال عون بن أبي شداد : ثلاثمائة وخمسون، ولذلك يحتمل أن تكون وفاته عليه السلام عند غرق قومه بعد ذلك بيسير، [ ص: 632 ] وقد روي أنه عمر بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين عاما، وأنه عاش ألف سنة وستمائة سنة وخمسين سنة. وقوله تبارك وتعالى: فأخذهم الطوفان يقتضي أنه أخذ قومه فقط، وقد اختلف في ذلك، فقالت فرقة: إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض وهي المختصة بقوم نوح ، وقالت فرقة -هي الجمهور-: إنما غرقت المعمورة كلها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا هو ظاهر الأمر; لاتخاذه السفينة، ولبعثه الطير ترتاد زوال الماء، ولغير ذلك من الدلائل، وبقي أن يعترض هذا بأن يقال: كيف غرق الجميع والرسالة إلى البعض؟ فالوجه في ذلك أن يقال: إن اختصاص نبي بأمة ليس هو بألا يهدي غيرها، ولا يدعوها إلى توحيد الله تعالى، وإنما هو بألا يأخذ بقتل غيرها، ولا يبث العبادات فيهم، ولم يكن الناس يومئذ كثيرين بحكم القرب من آدم عليه السلام ، فلا محالة أن دعاءه إلى توحيد الله تعالى قد كان بلغ الكل، فنالهم الغرق لإعراضهم وتماديهم.
و "الطوفان": العظيم الطامي، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء أو نار أو موت، ومنه قول الشاعر:
أفناهم طوفان موت جارف
[ ص: 633 ] و " أصحاب السفينة " تقدم في غير هذه السورة الخلاف في عددهم، وهم بنوه وقوم آمنوا، والضمير في قوله: "وجعلناها" يحتمل أن يعود على السفينة، و "الآية" هنا العبرة والعلامة على قدرة الله تبارك و تعالى في شدة بطشه، قال : أبقاها آية على قتادة الجودي .