إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر
هذه الناقة التي اقترحوها أن تخرج لهم من صخرة صماء من الجبل، وقد تقدم قصصها، فأخبر الله تعالى صالحا عليه السلام -على وجهة التأنيس- أنه يخرج لهم الناقة ابتلاء واختبارا، ثم أمره تعالى بارتقاب الفرج وبالصبر، و"اصطبر" أصله: اصتبر ا"فتعل"، أبدلت التاء طاء لتناسب الصاد، ثم أمره تعالى أن يخبر ثمود بأن الماء قسمة بينهم، و هو ماء البئر كان لهم.
واختلف المتأولون في معنى هذه القسمة، فقال جمهور منهم: قسمة بينهم، يتساوون في اليوم الذي لا ترده الناقة فيه، وذلك -فيما روي- أن الناقة كانت ترد البئر غبا، وتحتاج جميع مائه يومها، فنهاهم الله تعالى عن أن يستأثر أهل اليوم الذي لا ترد الناقة فيه بيومهم، وأمرهم بالتساوي مع الذين ترد الناقة في يومهم. وقال آخرون: معناه: الماء بين جميعهم وبين الناقة قسمة. "محتضر" معناه: محضور مشهود متواسى فيه، وقال : المعنى: "كل شرب"، أي: من الماء يوما ومن لبن الناقة يوما "محتضر" لهم، فكأنه أنبأهم بنعمة الله تعالى عليهم في ذلك. مجاهد
و"صاحبهم" هو قدار بن سالف، وبسببه سمي الجزار القدار لشبه في الفعل، قال الشاعر:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ضرب القدار نقيعة القدام
[ ص: 150 ] وقد تقدم شرح أمر قدار بن سالف.
و"تعاطى" هو مطاوع "عاطى"، فكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وأعطاها بعضهم بعضا، فتعاطاها هو وتناول العقر بيده، قاله رضي الله عنهما، ويقال للرجل الذي يدخل نفسه في تحمل الأمور الثقال: متعاط على الوجه الذي ذكرناه، والأصل "عطا يعطو" إذا تناول، ثم يقال: عاطى غيره، ثم يقال: تعاطى، وهذا كما يقال: جرى وجارى وتجارى، وهذا كثير. ابن عباس
ويروى أنه كان مع شرب -وهم التسعة رهط- فاحتاجوا ماء فلم يجدوه بسبب ورد الناقة، فحمله أصحابه على عقرها، ويروى أن ملأ القبيل اجتمع على أن عقرها، ورويت أسباب غير هذين، وقد تقدم ذلك.
و"الصيحة" يروى أن جبريل عليه السلام صاحها في طرف من منازلهم فتفتتوا وهمدوا وكانوا كهشيم المحتظر، و"الهشيم" ما تهشم وتفتت من الأشياء، وقرأ جمهور الناس: "كهشيم المحتظر" بكسر الظاء، ومعناه الذي يصنع حظيرة من الرعاء ونحوهم، قاله ابن إسحاق السبيعي ، والضحاك ، وهي مأخوذة من الحظر وهو المنع، وابن زيد والعرب وأهل البوادي يصنعونها للمواشي والسكنى أيضا من الأغصان والشجر المورق والقصب ونحوه، ولهذا كله هشيم يتفتت، إما في أول الصنعة وإما عند بلي الحظيرة وتساقط أجزائها، وحكى عن الطبري ، ابن عباس أن "المحتظر" معناه: المحترق، قال وقتادة : كهشيم محرق. وقرأ قتادة الحسن بن أبي الحسن، : "المحتظر" بفتح الظاء، ومعناه: الموضع الذي احتظر، فهو مفتعل من الحظر، أو الشيء الذي احتظر به، وقد روي عن وأبو رجاء أنه فسر "كهشيم المحتظر" بأن قال: هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي، وهذا متوجه، لأن الحائط حظيرة، والساقط هشيم، وقال أيضا هو وغيره: المحتظر معناه: المحرق بالنار، أي: كأنه ما في الموضع [ ص: 151 ] المحتظر بالنار، وما ذكرناه عن سعيد بن جبير ابن عباس هو على قراءة كسر الظاء، وفي هذا التأويل بعض البعد، وقال قوم: "المحتظر" بالفتح-: الهشيم نفسه، وهو مفتعل، وهو كمسجد الجامع وشبهه. وقتادة
وقد تقدم قصص قوم لوط عليه السلام و"الحاصب": السحاب الرامي بالبرد وغيره، فشبه تلك الحجارة التي رمى بها قوم لوط به في الكثرة والتوالي، وهو مأخوذ من الحصباء، كأن السحاب يحصب مقصده، ومنه قول : الفرزدق
مستقبلين شمال الشام تحصبهم بحاصب كنديف القطن منثور
وقال : سمعت ابن المسيب رضي الله عنه يقول لأهل عمر بن الخطاب المدينة: حصبوا المسجد، و"آل لوط": ابنتاه فيما روي، و"سحر" مصروف لأنه نكرة لم يرد به يوم معين.
وقوله تعالى: "نعمة" نصب على المصدر، أي: فعلنا ذلك إنعاما على القوم الذين نجيناهم، وهذا هو جزاؤنا لمن شكر نعمنا وآمن وأطاع.