أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين
قوله تعالى: أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟ وقرأ جمهور القراء: "بالغة" بالرفع على الصفة لـ "أيمان"، وقرأ "بالغة" بالنصب [ ص: 377 ] على الحال، وهي حال من نكرة مخصصة بقوله تعالى: "علينا"، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: : "أئن لكم"، وكذلك في التي تقدمت في قوله تعالى: الأعرج إن لكم فيه لما تخيرون .
ثم أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم -على جهة إقامة الحجة عليهم- أن يسألهم عن الزعيم لهم بذلك من هو؟ والزعيم: الضامن للأمر والقائم به.
ثم وقفهم تعالى على أمر الشركاء عسى أن يظنوا أنهم ينفعونهم في شيء من هذا، وقرأ ، ابن مسعود : "أم لهم شرك فليأتوا بشركهم" بكسر الشين دون ألف، والمراد بذلك -على القراءتين- الأصنام، وقوله تعالى: وابن أبي عبلة فليأتوا بشركائهم قيل: هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي: ليحضروهم حتى نرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا، وقيل: هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة، يوم يكشف عن ساق. وقوله تعالى: يوم يكشف عن ساق ، قال : هي أول ساعة من القيامة، وهي أفظعها، وتظاهر حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مجاهد هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان، وعلى كل [ ص: 378 ] وجه مما ذكرته فيه كشف الساق وما في الآية أيضا من ذلك فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم، حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب : "أنه ينادي مناد يوم القيامة: ليتبع كل أحد ما كان يعبد، قال: فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، وكذلك كل عابد لكل معبود، ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب معهم منافقوهم وكثير من الكفرة، فيقال لهم: ما شأنكم؟ لم تقفون وقد ذهب الناس؟ فيقولون: ننتظر ربنا، قال: فيجيئهم الله في غير الصورة التي عرفوه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، قال: فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها؟ فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق، فيقولون نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود، فيسجد كل مؤمن وترجع أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا فلا يستطيعون سجودا".
كشفت لهم عن ساقها وبدا عن الشر البراح
ومنه قول الآخر:
قد شمرت عن ساقها فشدوا . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر:
في سنة قد كشفت عن ساقها حمراء تبري اللحم عن عراقها
[ ص: 379 ] وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميرا وجدا، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى، فمنه قول دريد:
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الأعداء طلاع أنجد
وعلى هذا من أراد الجد والتشمير في طاعة الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقه".
وقرأ جمهور الناس: "يكشف" بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ : "يكشف" بفتح الياء وكسر الشين على معنى: يكشف الله، وقرأ ابن مسعود : "تكشف" بفتح التاء على أن القيامة هى الكاشفة وقرأ ابن عباس أيضا: "تكشف" بضم التاء على معنى: تكشف القيامة والشدة الحال الحاضرة، وحكى ابن عباس عنه أنه قرأ: "نكشف" بالنون مفتوحة وكسر الشين، ورويت عن الأخفش . ابن مسعود
وقوله تعالى: ويدعون ظاهره أن ثم دعاء إلى سجود، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل، وأنها لا تكليف فيها، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعون، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ، وخرج بعض الناس من قوله تعالى: فلا يستطيعون أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك، وذلك غير لازم، [ ص: 380 ] وعقيدة الأشعرية أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لا قبله، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا.
و"خاشعة" نصب على الحال، وجوارحهم كلها خاشعة، أي: ذليلة، ولكنه تعالى خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة. وقوله تعالى: ترهقهم ذلة معناه: تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهورا يخزيهم، وقوله سبحانه: وقد كانوا يدعون إلى السجود يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو، وقال بعض المتأولين: السجود هنا عبارة عن جميع الطاعات، وخص السجود بالذكر من حيث هو عظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة، وقال إبراهيم التيمي ، : أراد بالسجود الصلوات المكتوبة، وقال والشعبي : المعنى: كانوا يسمعون النداء للصلاة و"حي على الفلاح" فلا يجيبون، وفلج ابن جبير فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: إنك لمعذور، فقال: من سمع "حي على الفلاح" فليجب ولو حبوا،وقيل الربيع بن خيثم إن طارقا يريد قتلك فاجلس في بيتك، فقال: أسمع "حي على الفلاح" فلا أجيب؟ والله لا فعلت. وهذا كله قريب بعضه من بعض. لابن المسيب:
وقوله تعالى: فذرني ومن يكذب بهذا الحديث وعيد، ولم يكن ثم مانع ولكنه كما تقول: "دعني مع فلان"، أي: سأعاقبه، و"من" في موضع نصب عطفا على الضمير في: "ذرني"، أو نصب على المفعول معه، و"الحديث" المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب. و"الاستدراج" هو الحمل من رتبة إلى رتبة حتى يصير المحمول إلى شر، وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال : تسبغ [ ص: 381 ] عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنبا زيدوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم: سفيان الثوري وقال "إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، "كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه". الحسن:
و"أملي لهم" معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمان، وهي البرهة والقطعة، يقال: ملاوة بضم الميم وفتحها وكسرها، و"الكيد" عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، و"المتين": القوي الذي له متانة، ومنه المتن: الظهر.