تفسير سورة التكوير
وهي مكية بإجماع من المتأولين.
قوله عز وجل:
إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت
هذه كلها ، و"تكوير الشمس" هو أن تدار ويذهب بها إلى حيث شاء الله، كما يدار كور العمامة، وعبر المفسرون عن ذلك بعبارات، فمنهم من قال: ذهب نورها، ومنهم من قال: رمي بها، قاله أوصاف يوم القيامة ، وغير ذلك مما هو أشياء تابعة لتكويرها. و"انكدار النجوم" هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها، ومنه قول الراجز : الربيع بن خيثم
أبصر خربان فلاة فانكدر .. تقضي البازي إذا البازي كسر
[ ص: 545 ] وقال رضي الله عنهما: "انكدرت": تغيرت، من قولهم: ماء كدر، أي: متغير اللون. و"تسيير الجبال" هو قبل نسفها، وإنما ذلك في صدر هول القيامة. و: "العشار" جمع عشراء، وهي الناقة التي قد مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند ابن عباس العرب، وتهممهم بها عظيم للرغبة في نسلها، فإنها تعطل عند أشد الأهوال، وقرأ مضر عن : "عطلت" بتخفيف الطاء. اليزيدي
و"حشر الوحوش" جمعها، واختلف الناس في هذا الجمع، ما هو؟ فقال رضي الله عنهما: حشرت بالموت; لأنها لا تبعث القيامة، ولا يحضر القيامة غير الثقلين، وقال ابن عباس وجماعة: حشرت للجمع يوم القيامة، ويقتص للجماء من القرناء، فجعلوا ألفاظ هذا الحديث حقيقة لا مجازا، مثالا في العدل، وقال قتادة : حشرت في الدنيا في أول هول يوم القيامة، فإنها تفر في الأرض، وتجتمع إلى بني أبي بن كعب آدم تأنيسا بهم. وقرأ "حشرت" بشد الشين على المبالغة. الحسن:
و "تسجير البحار" قال ، قتادة : معناه: فرغت من مائها وذهب حيث شاء الله تعالى، وقال والضحاك يبست، وقال الحسن: : معناه: ملئت وفاضت [ ص: 546 ] وفجرت من أعاليها، وقال الربيع بن خيثم : أبي بن كعب ، وسفيان ووهب ، : معناه: أضرمت نارا كما يسجر التنور، وقال وابن زيد : جهنم في البحر الأخضر، ويحتمل أن يكون المعنى: ملكت، وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض بسبب الهول، فتكون اللفظة مأخوذة من "ساجور الكلب"، وقيل: هذه مجاز نار في جهنم تسجر يوم القيامة، وقد تقدم نظير هذه الأقوال منصوصة لأهل العلم في قوله تعالى: ابن عباس والبحر المسجور ، وقرأ ، ابن كثير "سجرت" بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بشدها، وهي مترجحة بكون البحار جمعا، كما قال تعالى: وأبو عمرو كتابا يلقاه منشورا ، وكما قال سبحانه: "صحفا منشرة"، ومثله: "قصر مشيد"، و"بروج مشيدة" لأنها جماعة، وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند موته، فالشمس نفسه، والنجوم عيناه وحواسه، والعشار ساقاه، وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى.
و"تزويج النفوس" هو تنويعها; لأن الأزواج هي الأنواع، والمعنى: جعل الكافر مع الكافر، والمؤمن مع المؤمن، وكل شكل مع شكله، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله النعمان بن بشير عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وقال: هذا نظير قوله [ ص: 547 ] تعالى: وابن عباس وكنتم أزواجا ثلاثة ، وفي الآية -على هذا- حض على دليل الخبر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: وقال عليه الصلاة والسلام: "المرء مع من أحب"، وقال الله تعالى: "فلينظر أحدكم من يخالل". الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ، وقال : زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور وغيرهن، وقال مقاتل بن سليمان ، عكرمة ، والضحاك : زوجت الأرواح الأجساد. وقرأ والشعبي : "زوجت" غير مدغم. عاصم
و"الموؤدة" اسم معناه: المثقل عليها، ومنه:"ولا يؤده"، ومنه: "اتئد"، أي توقر واثقل، وعرف هذا الاسم في البنات اللواتي كان قوم من العرب يدفنونهن أحياء، يحفر الرجل شبه البئر أو القبر ثم يسوق ابنته فيلقيها فيها، وإذا كانت صغيرة جدا خد لها في الأرض ودفنها، وبعضهم كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال، وبعضهم غيرة وكراهية للبنات وجهالة، وقرأ الجمهور: "الموءودة" بالهمز من "وأد" في حرف : "وإذا الماودة"، وقرأ ابن مسعود : "المؤودة" بهمزة [ ص: 548 ] مضمومة على الواو مثل "المعوذة"، وقرأ بعض القراء: "المودة" بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة، وقرأ البزي : "المودة" بسكون الواو على وزن "الفعلة"، وقرأ بعض السلف: "المودة" بفتح الواو والدال المشددة، جعل البنت مودة، وقرأ جمهور الناس: "سئلت"، وهذا على وجه التوبيخ الأعمش للعرب الفاعلين ذلك; لأنها تسأل ليصير الأمر إلى سؤال الفاعلين، ويحتمل أن تكون: مسؤولا عنها مطلوبا الجواب منهم، كما قال تعالى: إن العهد كان مسؤولا ، وكما سئل التراث والحقوق. وقرأ ، ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وجابر بن زيد ، وأبو الضحى ، وجماعة كبيرة منهم ومجاهد ، ابن مسعود "سألت"، ثم اختلف هؤلاء، فقرأ أكثرهم: "قتلت" بفتح اللام وسكون التاء "الثانية"، وقرأ والربيع بن خيثم : "قتلت" بشد التاء على المبالغة، وقرأ أبو جعفر ، ابن عباس وجابر ، ، وأبو الضحى : "قتلت" بسكون اللام وضم التاء "الثانية"، وقرأ ومجاهد : "سيلت" بكسر السين وفتح اللام دون همز. واستدل الأعرج رضي الله عنهما بهذه الآية في أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله تعالى قد انتصر لهم من ظلمهم . ابن عباس
و"الصحف المنشورة" قيل: هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل امرئ كتابه، وقيل: هي الصحف التي تتطاير بالأيمان والشمائل للجزاء، وقرأ ، نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر وشيبة ، والحسن ، وأبو رجاء : "نشرت" بتخفيف الشين المكسورة، وقرأ وقتادة ، ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : "نشرت" بشد الشين على المبالغة. و"الكشط": التقشير، وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ، وكشط السماء هو طيها كطي السجل، وفي مصحف والكسائي : "قشطت" بالقاف، وهما بمعنى واحد. عبد الله بن مسعود
و"سعرت" معناه: أضرمت نارها، وقرأ ، نافع ، وابن عامر وحفص عن : "سعرت" بشد العين، وقرأ عاصم ، ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي وأبو بكر عن [ ص: 549 ] : بتخفيفها، وهي قراءة عاصم رضي الله عنه، وقال علي بن أبي طالب : سعرها غضب الله عز وجل وذنوب بني قتادة آدم.
و"أزلفت" معناه: قربت ليدخلها المؤمنون، وقرأ رضي الله عنه وجماعة من المفسرين: إلى هذين ما انتهى الحديث، وذلك أن الغرض المقصود بقوله تعالى: "وإذا، وإذا" في جميع ما ذكرنا إما تم بقوله تعالى: عمر بن الخطاب علمت نفس ما أحضرت ، أي: ما أحضرت من شر فدخلت به جهنم، أو من خير فدخلت به الجنة، و"نفس" هنا اسم جنس، أي: عملت النفوس، ووقع الإفراد لينبه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه.