تفسير سورة الشرح
وهي مكية بإجماع من المفسرين، لا خلاف بينهم في ذلك.
قوله عز وجل:
ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب
عدد الله على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه في أن شرح صدره للنبوة وهيأه لها، وذهب الجمهور إلى أن شرح الصدر المذكور هو: تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه. وقال رضي الله عنهما، وجماعة: هذه إشارة إلى شرحه بشق ابن عباس جبريل عليه السلام عنه في وقت صغره، وفي وقت الإسراء; إذ التشريح شق اللحم. وقرأ : "ألم نشرح" بنصب الحاء على نحو قول الشاعر : أبو جعفر المنصور
أضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس
ومثله في نوادر أبي زيد:
من أي يومي من الموت أفر أيوم لم يقدر أم يوم قدر
كأنه تعالى قال: "ألم نشرحن"، ثم أبدل من النون ألفا، ثم حذفها تخفيفا، وهي قراءة مردودة.
[ ص: 644 ] و"الوزر" الذي وضعه الله عنه هو عند بعض المتأولين الثقل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيرته قبل المبعث; إذ كان يرى سوء ما قريش فيه من عبادة الأصنام، وكان لم يتجه له من الله أمر واضح، فوضع الله تعالى عنه ذلك الثقل بنبوته وإرساله. وقال وغيره: المعنى: خففنا عليك أثقال النبوة، وأعناك على الناس، وقال أبو عبيدة ، قتادة ، وابن زيد ، وجمهور من المفسرين: الوزر هنا: الذنوب، الثقل، فشبهت الذنوب به، وهذه الآية نظير قوله تعالى: والحسن ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل النبوة وزره صحبة قومه، وأكله من ذبائحهم، ونحو هذا، وقال ، وفي كتاب الضحاك : حضوره مع قومه المشاهد التي لا يحبها الله تعالى. النقاش
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه كلها جرها المنشأ، كشهوده حرب الفجار، ينبل على أعمامه وقلبه في ذلك منيب إلى الصواب، وأما عبادة الأصنام فلم يلتبس بها قط. وقرأ : "وحططنا عنك وزرك"، وفي حرف أنس بن مالك : "وحللنا عنك وقرك"، وفي حرف ابن مسعود "وحططنا عنك وقرك"، وذكر أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم صوب جميعها. وقال أبو عمرو إنما وصفت ذنوب الأنبياء عليهم السلام بالثقل وهي صغائر مغفورة لهمهم بها وتحسرهم عليها. المحاسبي:
[ ص: 645 ] و"أنقض" معناه: جعله نقضا، أي هزيلا معيبا من الثقل، وقيل: معناه: أسمع له نقيضا وهو الصوت، وهو مثل نقيض السفن، وكل ما حملته ثقلا فإنه ينقض تحته، وقال عباس بن مرداس :
وأنقض ظهري ما تطوقت منهم وكنت عليهم مشفقا متحننا
وقوله تعالى: ورفعنا لك ذكرك معناه: نوهنا باسمك، وذهبنا به كل مذهب في الأرض، هذا ورسول الله بمكة، وقال ، أبو سعيد الخدري ، والحسن ، ومجاهد : معنى قوله تعالى: وقتادة ورفعنا لك ذكرك ، أي: قرنا اسمك باسمنا في الأذان والخطب، وروي في هذا حديث "إن الله تعالى قال: إذا ذكرت ذكرت معي"، وهذا متجه إلى أن الآية نزلت بمكة قديما والأذان شرع بالمدينة، ورفع الذكر نعمة على الرسول صلى الله عليه سلم، وكذلك هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة، وقد جعل الله تعالى النعم أقساما بحسب ما يصلح لشخص شخص، وفي الحديث: "إن الله تعالى يوقف عبدا يوم القيامة فيقول: ألم أفعل بك كذا وكذا؟ يعدد عليه نعمه-، ويقول في جملتها: ألم أحمل أخمل ذكرك في الناس"؟ والمعنى في هذا التعديد الذي على النبي صلى الله عليه وسلم أي: يا محمد قد جعلنا جميع هذا فلا تكترث بأذى قريش، فإن الذي فعل بك هذه النعم سيظفرك بهم وينصرك عليهم.
ثم قوى رجاءه بقوله سبحانه: فإن مع العسر يسرا ، أي ما تراه من الأذى فرج يأتيك، وكرر تعالى ذلك مبالغة وتبينا للخير، فقال بعض الناس: المعنى: إن مع العسر يسرا في الدنيا، وإن مع العسر يسرا في الآخرة، وذهب كثير من العلماء إلى [ ص: 646 ] أن مع كل عسر يسرين بهذه الآية، من حيث "العسر" معروف للعهد، و"اليسر" منكر، فالأول غير الثاني، وقد روي في هذا التأويل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وأما قول "لن يغلب عسر يسرين"، به فنص في الموطأ في رسالته إلى عمر رضي الله عنهما. وقرأ أبي عبيدة بن الجراح عيسى، ، ويحيى بن وثاب : "العسر، واليسر" بضمتين، وقرأ وأبو جعفر : "إن مع العسر يسرا" واحدة غير مكررة. ابن مسعود
ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من شغل من أشغال النبوة والعبادة أن ينصب في آخر، والنصب: التعب، فالمعنى أن يدأب على ما أمر به ولا يفتر، وقال رضي الله عنهما: المعنى: فإذا فرغت من فرضك فانصب في التنفل عبادة لربك، وقال ابن عباس : فانصب في قيام الليل، وعن ابن مسعود فإذا فرغت من شغل دنياك فانصب في عبادة ربك، وقيل: المعنى: إذا فرغت من الركعات فاجلس في التشهد وانصب في الدعاء، وقال مجاهد ، ابن عباس : معنى الكلام: فإذا فرغت من العبادة فانصب في الدعاء، وقال وقتادة إذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة، ويعترض هذا التأويل أن الجهاد فرض الحسن بن أبي الحسن: بالمدينة. وقرأ أبو السمال: "فرغت" بكسر الراء، وهي لغة، وقرأ قوم "فانصب" بشد الباء وفتحها، ومعناها: إذا فرغت من الجهاد "فانصب" إلى المدينة، ذكرها منبها على أنها خطأ، وقرأ آخرون النقاش الإمامية "فانصب" بكسر الصاد، بمعنى إذا فرغت من أمر النبوة فانصب خليفة، وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم، ومر على رجلين يصطرعان فقال: ليس بهذا أمر الفراغ، وتلا هذه الآية. شريح
وقوله تعالى: وإلى ربك فارغب أمر بالتوكل على الله عز وجل، وصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه، وقرأ : "فرغب" بفتح الراء وشد الغين مكسورة. ابن أبي عبلة
كمل تفسير سورة [الشرح] والحمد لله رب العالمين.