قوله عز وجل:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين
ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض، من حيث فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام بتحريم ما كان يحب على نفسه، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب. وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات على أنها معان منحازة، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم. أخبر تعالى أنه لا يقبل من الموافي على الكفر ملء الأرض ذهبا، وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير،
وقوله تعالى "لن تنالوا"..... الآية، خطاب لجميع المؤمنين; وقال السدي البر الجنة. وهذا تفسير بالمعنى، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من أفاعيل الخير، فتحتمل الآية أن يريد: لن تنالوا بر الله تعالى بكم، أي رحمته ولطفه، ويحتمل أن يريد: لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارا، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم. وعمرو بن ميمون:
[ ص: 283 ] وبسبب نزول هذه الآية بحائطه، المسمى أبو طلحة بيرحا، وتصدق بفرس كان يحبها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ابنه، فكأن أسامة زيدا شق عليه فقال له النبي: "أما إن الله قد قبل صدقتك". وكتب تصدق إلى عمر بن الخطاب أن يشتري له جارية من سبي أبي موسى الأشعري جلولاء وقت فتح مدائن كسرى على يدي فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوما وقال: إن الله يقول: سعد بن أبي وقاص، لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها. فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى: "مما تحبون" أي: من رغائب الأموال التي يضن بها، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على قدر الاشتهاء يدخل في الآية، فكان "خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى"... يشتهي أكل السكر باللوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية. عبد الله بن عمر
وإذا تأملت جميع الطاعات وجدتها إنفاقا مما يحب الإنسان، إما من ماله، وإما من صحته، وإما من دعته وترفهه، وهذه كلها محبوبات. وسأل رجل [ ص: 284 ] رضي الله عنه، أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصدقة شيء عجيب، فقال له الرجل: أراك تركت شيئا وهو أوثقها في نفسي: الصيام، فقال أبا ذر الغفاري قربة وليس هناك، ثم تلا: أبو ذر: لن تنالوا البر ... الآية.
وقوله تعالى: وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم شرط وجواب فيه وعد، أي: عليم مجاز به وإن قل.
قوله تعالى: "كل الطعام"... الآية، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب.
وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية: الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء: إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه الآية، وأخبر أن جميع الطعام كان حلا لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يرد به ولده، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها، وإلى هذا تنحو ألفاظ قال: إن الله تعالى: حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله السدي، يعقوب خاصة لنفسه، قال: فذلك قوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم .
قال أبو محمد رحمه الله:
والظاهر في لفظة "ظلم" أنها مختصة بتحريم ونحوه، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع. وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية: الرد على قوم من اليهود قالوا: إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراما في ملة أبينا إبراهيم، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالا لهم قبل التوراة إلا ما حرم إسرائيل في خاصته، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم; وإلى هذا تنحو ألفاظ رضي الله عنه، وترجم ابن عباس [ ص: 285 ] في تفسير هذه الآية بتراجم، وأدخل تحتها أقوالا توافق تراجمه، وحمل ألفاظ الطبري أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى: كل الطعام كان حلا لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها، وهذا شيء لم يقله الضحاك ولا يحتمله لفظه، لكنه في نفسه كلام متخرج على أن يجعل "كان" لا تخص الماضي من الزمان، بل تكون بمنزلة التي في قولك: الضحاك وكان الله غفورا رحيما ; فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه. وحمل قول الطبري أن معناه: لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها. وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى: ( حرمنا عليهم ) وقوله صلى الله عليه وسلم: الضحاك إلى غير ذلك من الشواهد. "حرمت عليهم الشحوم"
وقوله تعالى: "حلا" معناه: حلالا، و"إسرائيل" هو يعقوب. وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب، فقيل: إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: إن هذا تحريم تقرب وزهد، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس.
واختلف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه -فقال يوسف بن ماهك: جاء أعرابي إلى فقال له: إنه جعل امرأته عليه حراما، فقال ابن عباس إنها ليست عليك بحرام، فقال الأعرابي: ولم والله تعالى يقول في كتابه: ابن عباس: إلا [ ص: 286 ] ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ فضحك وقال: وما يدريك ما حرم إسرائيل؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال: إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقا، قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم، وقال بمثل هذا القول ابن عباس قتادة وأبو مجلز وغيرهم.
وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير أيضا: إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو من مرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرا لله تعالى إن شفي. وقيل: هو وجع عرق النسا. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومجاهد محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم: "أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا إن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم". وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له: يا يعقوب عليه السلام حرم لحوم الإبل وألبانها -وهو يحبها- تقربا إلى الله بذلك، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذا هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا رضي الله عنه بقوله: "إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر" ومن ذلك قول عمر بن الخطاب أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال: موعدك الجنة إن شاء الله، وحرم يعقوب عليه السلام أيضا العروق، لكن بغضة لها لما كان امتحن بها، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء، وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر، والله أعلم، وقد روي عن أن ابن عباس يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل.
[ ص: 287 ] وأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة، حتى يبين منها كيف الأمر، المعنى: فإنه أيها اليهود، كما أنزل الله علي لا كما تدعون أنتم; قال وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم، وهي كقصة المباهلة مع نصارى الزجاج: نجران.