ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين
لما أمر الله تعالى بالتوكل عليه، ذكر بأمر بدر الذي كان ثمرة فمن قال من المفسرين إن قول النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: "ألن يكفيكم". كان في غزوة التوكل على الله والثقة به، بدر، فيجيء التذكير بأمر بدر وبأمر الملائكة وقتالهم فيه مع المؤمنين، محرضا على الجد والتوكل على الله، ومن قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألن يكفيكم"... الآية إنما كان في غزوة أحد، كان قوله تعالى: ولقد نصركم الله ببدر إلى "تشكرون" اعتراضا بين الكلام جميلا، والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش، وعلى ذلك اليوم انبنى الإسلام، وكانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة. وبدر: ماء هنالك سمي به الموضع. وقال كان ذلك الماء لرجل من الشعبي: جهينة يسمى بدرا فبه سمي. قال فذكرت هذا الواقدي: لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا: بأي شيء سميت الصفراء والجار وغير ذلك من المواضع؟ قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا وما ملكه أحد قط يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار، قال فهذا المعروف عندنا. الواقدي:
[ ص: 343 ] وقوله تعالى: "وأنتم أذلة" معناه: قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا، وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف، وأذلة: جمع ذليل، واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض يقتضي عند التأمل ذلتهم، وأنهم مغلوبون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم: وهذه الاستعارة كاستعارة الكذب في قوله في الموطإ: كذب "اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد"، كعب، وكقوله: كذب أبو محمد، وكاستعارة المسكنة لأصحاب السفينة على بعض الأقوال، إذ كانت مسكنتهم بالنسبة إلى الملك القادر الغاصب.
ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى، ورجاهم في الإنعام الذي يوجب الشكر، ويحتمل أن يكون المعنى: اتقوا الله عسى أن تكون تقواكم شكرا على النعمة في نصره ببدر.
وقوله تعالى: "إذ تقول"، العامل في "إذ" فعل مضمر، ويحتمل أن يكون العامل: "نصركم" وهذا على قول الجمهور: إن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان ببدر، قال الشعبي وغيرهما: إن هذا كان والحسن بن أبي الحسن ببدر، قال بلغ المؤمنين أن الشعبي: كرز بن جابر بن حسل المحاربي محارب فهر قد جاء في مدد للمشركين، فغم ذلك المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين عن أمر الله تعالى هذه المقالة، فصبر المؤمنون واتقوا، وهزم المشركون، وبلغت الهزيمة كرزا ومن معه فانصرفوا ولم يأتوا من فورهم، ولم يمد المؤمنون بالملائكة، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله عليه وسلم مددا، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وخالف الناس في هذه المقالة، وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت الشعبي بدرا وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة: لو كنت معكم الآن ببدر [ ص: 344 ] ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. ومنه حديث الغفاري وابن عمه اللذين سمعا من الصحابة: أقدم حيزوم فانكشف قناع قلب أحدهما، فمات مكانه، وتماسك الآخر.
وقال لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم ابن عباس: بدر، وكانوا يكونون في سائر الأيام عددا ومددا لا يضربون. ومن ذلك قول أبي سفيان بن الحارث لأبي لهب: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلون ويأسرون، وعلى ذلك فوالله ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، ومن ذلك أحد أبا اليسر كعب بن عمرو الأنصاري بني سلمة أسر يوم بدر وكان العباس بن عبد المطلب، أبو اليسر رجلا مجموعا وكان رجلا طويلا جسيما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أعانك عليه ملك كريم"... العباس الحديث بجملته. وقد قال بعض الصحابة: كنت يوم أن بدر أتبع رجلا من المشركين لأضربه بسيفي فلما دنوت منه وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه، فعلمت أن ملكا قتله.
[ ص: 345 ] وقال أمد الله المؤمنين يوم قتادة بن دعامة: بدر بخمسة آلاف من الملائكة، قال وقال آخرون: إن الله وعد المؤمنين يوم الطبري: بدر أن يمدهم في حروبهم كلها إن صبروا واتقوا، فلم يفعلوا ذلك إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة، ثم أدخل تحت هذه الترجمة عن أنه قال: عبد الله بن أبي أوفى قريظة مدة فلم يفتح علينا فرجعنا، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا بغسل يريد أن يغسل رأسه، إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال: وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها، فلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بخرقة ولم يغسله، ونادى فينا فقمنا كالين متعبين، حتى أتينا قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله بالملائكة بثلاثة آلاف، وفتح لنا فتحا يسيرا، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل. حاصرنا
وقال كان الوعد يوم عكرمة: بدر، فلم يصبروا يوم أحد ولا اتقوا، فلم يمدوا ولو مدوا لم يهزموا.
وقال كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم الضحاك: أحد، ففر الناس وولوا مدبرين فلم يمدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين.
وقال ابن زيد: قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهم ينتظرون المشركين: يا رسول الله، أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألن يكفيكم .... الآية، وإنما أمدهم يوم بدر بألف. قال فلم يصبروا. ابن زيد:
وقوله تعالى: "ألن يكفيكم" تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة، ومن حيث كان الأمر بينا في نفسه أن الملائكة كافية، بادر المتكلم إلى الجواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال: بلى وهي جواب المقررين. وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها، ونحوه قوله تعالى: قل أي شيء أكبر [ ص: 346 ] شهادة قل الله وفي مصحف "ألا يكفيكم"، وقد مضى القول في الإمداد في سورة البقرة في قوله: أبي بن كعب، ويمدهم في طغيانهم .
وقرأ "بثلاثه آلاف" يقف على الهاء، وكذلك: "بخمسه آلاف"، ووجه هذه القراءة ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال للأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيقلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا الحسن بن أبي الحسن: للعرب في مواضع، فمن ذلك ما حكاه أنهم يقولون: أكلت لحما شاه، يريدون لحم شاة فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف: قالا، يريدون: قال، ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها من مواضع الروية والتثبت، ومن ذلك في الشعر قول الشاعر: الفراء
ينباع من ذفري غضوب جسرة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد: ينبع فمطل، ومنه قول الآخر:
أقول إذ خرت على الكلكال يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد: على الكلكل فمطل، ومنه قول الآخر:
فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
[ ص: 347 ] يريد بمنتزح، قال أبو الفتح: فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه إذ هما في الحقيقة اثنان.
وقرأ وحده: "منزلين" بفتح النون والزاي مشددة، وقرأ الباقون: "منزلين" بسكون النون وفتح الزاي مخففة، وقرأ ابن عامر "منزلين" بفتح النون وكسر الزاي مشددة معناها: ينزلون النصر، وحكى ابن أبي عبلة: النحاس قراءة ولم ينسبها: "منزلين" بسكون النون وكسر الزاي خفيفة، وفسرها بأنهم ينزلون النصر.
و"بلى" جواب للنفي الذي في "ألن" وقد تقدم معناه: ثم ذكر تعالى الشرط الذي معه يقع الإمداد وهو الصبر، والتقى. والفور: النهوض المسرع إلى الشيء مأخوذ من فور القدر والماء ونحوه، ومنه قوله تعالى: "وفار التنور" فالمعنى: ويأتوكم في نهضتكم هذه. قال "من فورهم هذا" معناه: من سفرهم هذا، قال ابن عباس: الحسن معناه: من وجههم هذا، وقاله والسدي: وقال قتادة. مجاهد وعكرمة وأبو صالح مولى أم هانئ: من غضبهم هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تفسير لا يخص اللفظة، قد يكون "الفور" لغضب ولطمع ولرغبة في أجر، ومنه الفور في الحج والوضوء.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير "مسومين"، بكسر الواو، وقرأ الباقون: وعاصم:
[ ص: 348 ] "مسومين"، بفتح الواو، فأما من قرأ بفتح الواو فمعناه: معلمين بعلامات، قال السومة: العلامة تكون على الشاة وغيرها يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف، وروي أن الملائكة أعلمت يومئذ بعمائم بيض، حكاه أبو زيد الأنصاري: المهدوي عن إلا الزجاج، جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة وقاله الزبير بن العوام، وقال ابن إسحاق. كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف ، معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن. وقال مجاهد: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق، وقال الربيع: عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير: نزلت الملائكة في سيما عليهم عمائم صفر، وقال ذلك الزبير، عروة وعبد الله ابنا وقال الزبير. عبد الله: كانت ملاءة صفراء فاعتم بها، ومن قرأ: "مسومين" بكسر الواو، فيحتمل من المعنى مثل ما تقدم، أي: هم قد أعلموا أنفسهم بعلامة وأعلموا خيلهم، ورجح الزبير وغيره هذه القراءة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين يوم الطبري بدر: فهم على هذا مسومون، وقال كثير من أهل التفسير: إن معنى "مسومين" بكسر الواو أي هم قد سوموا خيلهم: أي: أعطوها سومها من الجري والقتال والإحضار فهي سائمة، ومنه سائمة الماشية، لأنها تركت وسومها من الرعي، وذكر "سوموا فإن الملائكة قد سومت" المهدوي هذا المعنى في "مسومين" بفتح الواو أي أرسلوا وسومهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهو قلق، وقد قاله أيضا. ابن فورك