قوله عز وجل:
سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
قرأ وحده: "سيكتب" بالياء من أسفل على بناء الفعل للمفعول: و "قتلهم" برفع اللام عطفا على المفعول الذي لم يسم فاعله، و "يقول" بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بنون الجمع، فإما أنها نون العظمة، وإما هي للملائكة، و"ما" على هذه القراءة مفعولة بها، و "قتلهم" بنصب اللام عطفا على "ما"، "ونقول" بالنون على [ ص: 434 ] نحو "سنكتب" والمعنى في هاتين القراءتين قريب بعضه من بعض، قال حمزة وفي قراءة الكسائي: "ويقال ذوقوا". وقال عبد الله بن مسعود: أبو معاذ النحوي في حرف "سنكتب ما يقولون" "ويقال لهم ذوقوا". وقرأ ابن مسعود: "سنكتب ما يقولون"، وحكى طلحة بن مصرف: عنه أيضا أنه قرأ: "ستكتب" بتاء مرفوعة "ما قالوا" بمعنى: ستكتب مقالتهم. أبو عمرو
وهذه الآية وعيد لهم، أي: سيحصي عليهم قولهم. والكتب فيما حكى كثير من العلماء هو في صحف تقيده الملائكة فيها، تلك الصحف المكتوبة هي التي توزن، وفيها يخلق الله الثقل والخفة بحسب العمل المكتوب فيها. وذهب قوم إلى أن الكتب عبارة عن الإحصاء وعدم الإهمال، فعبر عن ذلك بما تفهم العرب منه غاية الضبط والتقييد. فمعنى الآية: أن أقوال هؤلاء تكتب وأعمالهم، ويتصل ذلك بأفعال آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق ونحوه، ثم يقال لجميعهم: "ذوقوا عذاب الحريق" وخلطت الآية الآباء مع الأبناء في الضمائر، إذ الآباء هم الذين طرقوا لأبنائهم الكفر وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم.
والذوق مع العذاب مستعار، عبارة عن المباشرة، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته مميزة جدا، والحريق معناه: المحرق فعيل بمعنى مفعل، وقيل: الحريق طبقة من طبقات جهنم.
وقوله تعالى:
ذلك بما قدمت أيديكم توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون خطابا لمعاصري النبي عليه الصلاة والسلام يوم نزول الآية، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان، فأضيف كل كسب إليها، ثم بين تعالى أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه، والتقدير: وبـ أن الله ليس بظلام للعبيد وجمع "عبدا" في هذه الآية على عبيد، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم.
[ ص: 435 ] وقوله تعالى: الذين قالوا إن الله عهد إلينا صفة راجعة إلى قوله: الذين قالوا إن الله فقير قال "الذين" صفة للعبيد، وهذا مفسد للمعنى والرصف، وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، أي أنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا ألا نؤمن لك. و"عهد" معناه: أمر، والعهد: أخص من الأمر، وذلك أنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان، وتعدى "أمن" في هذه الآية باللام والباء في ضمن ذلك. و "قربان" مصدر سمي به الشيء الذي يقرب كالرهن، وكان أمر القربان حكما قديما في الأنبياء، ألا ترى أن ابني الزجاج: آدم قربا قربانا، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله، قرب قربانا شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك، وجعله في مكان للهواء وانتظر به ساعة، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء، فهذه علامة القبول، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول، ثم كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل. وكانت هذه النار أيضا تنزل لأموال الغنائم فتحرقها، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم حسب الحديث.
وروي عن أنه كان يقرأ "بقربان" بضم الراء، وذلك على الإتباع لضمة القاف وليست بلغة، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين، وقد حكى عيسى بن عمر السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الإتباع. سيبويه: