[ ص: 455 ] قوله عز وجل:
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
اختلف المتأولون فيمن عنى بهذه الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن جريج وغيرهم: وقتادة سلطان أصحمة النجاشي الحبشة، وذلك أنه كان مؤمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما مات عرف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "اخرجوا فصلوا على أخ لكم" فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فكبر أربعا. وفي بعض الحديث: أنه كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن نعشه في الساعة التي قرب منها للدفن، فكان يراه من موضعه بالمدينة، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط، فنزلت هذه الآية. وكان نزلت بسبب نصرانيا، أصحمة النجاشي وأصحمة تفسيره بالعربية: عطية، قاله وغيره. وروي أن المنافقين قالوا بعد ذلك: فإنه لم يصل للقبلة فنزلت: سفيان بن عيينة ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله . وقال قوم: نزلت في وقال عبد الله بن سلام، ابن زيد نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب. ومجاهد:
[ ص: 456 ] و"خاشعين" حال من الضمير في "يؤمن"، ورد "خاشعين" على المعنى في "من" لأنه جمع، لا على لفظ "من" لأنه إفراد.
وقوله تعالى: لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى.
وقوله تعالى: إن الله سريع الحساب قيل معناه: سريع إتيان بيوم القيامة، وهو يوم الحساب، فالحساب إذا سريع، إذ كل آت قريب. وقال قوم: سريع الحساب أي: إحصاء أعمال العباد وأجورهم وآثامهم، إذ ذلك كله في عمله لا يحتاج فيه إلى عد وروية ونظر، كما يحتاج البشر.
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة فقيل: معناه: مصابرة الأعداء، قاله وقيل: معناه: مصابرة وعد الله في النصر، قاله زيد بن أسلم. أي: لا تسأموا وانتظروا الفرج، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: محمد بن كعب القرظي، "انتظار الفرج بالصبر عبادة".
وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله "ورابطوا"; فقال جمهور الأمة: معناه: رابطوا أعداءكم الخيل، أي: ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله عز وجل: ومن رباط الخيل ...الآية.
وكتب إلى عمر بن الخطاب وقد كتب إليه يذكر جموع أبي عبيدة، الروم، فكتب إليه أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة، جعل الله بعدها فرجا، ولن [ ص: 457 ] يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه، عمر: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ... الآية.
وقال هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، واحتج بحديث أبو سلمة بن عبد الرحمن: علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأبي هريرة، "ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللفظة مأخوذة من الربط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله: "فذلكم الرباط" وكقوله: "ليس الشديد بالصرعة" إلى غير ذلك من الأمثلة. "ليس المسكين بهذا الطواف"
[ ص: 458 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، قاله ورواه. فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين. ابن المواز
وقوله: لعلكم تفلحون ترج في حق البشر.
كمل تفسير سورة آل عمران والحمد لله على ذلك كثيرا.