قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم
[ ص: 320 ] قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف؛ تقديره: "قل لمن ما في السماوات والأرض؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا فـ "قل لله". وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال؛ فكأنهم لما لم يجيبوا؛ ولا تيقنوا؛ سألوا؛ فقيل له: "قل لله"؛ والصحيح أن الله - عز وجل - أمر محمدا - عليه الصلاة والسلام - بقطعهم بهذه الحجة الساطعة؛ والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم؛ ولا عند أحد؛ ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم؛ ثم يتركب احتجاجه عليه؛ وجاء ذلك بلفظ استفهام؛ وتقرير؛ في قوله: لمن ما في السماوات والأرض ؛ والوجه في المحاجة إذا سأل الإنسان خصمه بأمر لا يدافعه الخصم فيه؛ أن يسبقه بعد التقرير إليه؛ مبادرة إلى الحجة؛ كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه: كيف قال الله تعالى في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية؛ فتنصها عليه؛ فكأن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - قال لهم: "يا أيها الكافرون العادلون بربهم؛ لمن ما في السماوات والأرض؟"؛ ثم سبقهم فقال: "لله"؛ أي: لا مدافعة في هذا عندكم؛ ولا عند أحد.
ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى كتب على نفسه الرحمة ؛ معناه: قضاها؛ وأنفذها؛ وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي - عليه الصلاة والسلام - تتضمن كتب الرحمة؛ ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين في الآخرة؛ ولجميع الناس في الدنيا؛ منها: "إن الله تعالى خلق مائة رحمة؛ فوضع منها واحدة في الأرض؛ فبها تتعاطف البهائم؛ وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها؛ وبها تتعاطف الطير؛ والحيتان؛ وعنده تسع وتسعون رحمة؛ فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين؛ وبثها في عباده".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات! تغمدنا الله تعالى بفضل منه.
[ ص: 321 ] ومنها حديث آخر: ومعناه: سبقت؛ وأنشد عليه "إن الله - عز وجل - كتب عنده كتابا؛ فهو عنده فوق العرش؛ أن رحمتي سبقت غضبي"؛ ويروى: "نالت غضبي"؛ ثابت بن قاسم:
أبني كليب إن عميا اللذا ... نالا الملوك وفككا الأغلالا
ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة؛ لتأنيس الكفار؛ ونفي يأسهم من رحمة الله تعالى إذا تابوا؛ وأن باب توبتهم مفتوح؛ قال : الرحمة هنا إمهال الكفار؛ وتعميرهم ليتوبوا؛ وحكى الزجاج المهدوي أن جماعة من النحويين قالت: إن "ليجمعنكم"؛ هو تفسير الرحمة؛ تقديره: "أن يجمعكم"؛ فيكون "ليجمعنكم"؛ في موضع نصب على البدل من "الرحمة"؛ وهو مثل قوله: ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ؛ المعنى: "أن يسجنوه".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب؛ وهو مردود؛ وإنما تدخل في الأمر والنهي؛ وباختصاص من الواجب في القسم.
وقالت فرقة - وهو الأظهر -: إن اللام لام قسم؛ والكلام مستأنف؛ ويتخرج ذلك في: "ليسجننه"؛ وقالت فرقة: "إلى"؛ بمعنى "في"؛ وقيل: على بابها؛ غاية؛ وهو الأرجح.
و لا ريب فيه ؛ أي: هو في نفسه وذاته لا ريب فيه.
وقوله تعالى الذين خسروا أنفسهم ؛ الآية؛ قيل: إن "الذين"؛ منادى.
[ ص: 322 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهو فاسد؛ لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات.
وقيل: هو نعت "المكذبين"؛ الذين تقدم ذكرهم؛ وقيل: هو بدل من الضمير في "ليجمعنكم"؛ قال : ذلك لا يجوز؛ كما لا يجوز: "مررت بك زيد". المبرد
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقوله في الآية: "ليجمعنكم"؛ مخالف لهذا المثال؛ لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني؛ وإذا قلت: "مررت بك زيد"؛ فلا فائدة في الثاني؛ وقوله: "ليجمعنكم"؛ يصلح لمخاطبة الناس كافة؛ فيفيدنا "الذين"؛ من الضمير؛ أنهم هم المختصون بالخطاب هنا؛ وخصوا على جهة الوعيد؛ ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا "اللام" للقسم؛ وهو القول الصحيح؛ ويجيء هذا بدل البعض من الكل.
وقال : "الذين"؛ رفع بالابتداء؛ وخبره الزجاج فهم لا يؤمنون ؛ وهذا قول حسن؛ والفاء في قوله: "فهم"؛ جواب على القول بأن "الذين"؛ رفع بالابتداء؛ لأن معنى الشرط حاصل؛ تقديره: "من خسر نفسه فهو لا يؤمن".
وعلى القول بأن "الذين"؛ بدل من الضمير؛ هي عاطفة جملة على جملة؛ و"خسروا"؛ معناه: "غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله تعالى وسخطه"؛ ومنه قول الشاعر :
[ ص: 323 ]
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
وقوله تعالى وله ما سكن ؛ الآية: "وله"؛ عطف على قوله: "لله"؛ واللام للملك؛ و"ما" بمعنى "الذي"؛ و"سكن"؛ هي من السكنى؛ ونحوها؛ أي: ما ثبت؛ وتقرر؛ قاله وغيره؛ وقالت فرقة: هو من السكون؛ وقال بعضهم: لأن الساكن من الأشياء أكثر من المتحرك؛ إلى غير هذا من القول الذي هو تخليط؛ والمقصد في الآية عموم كل شيء؛ وذلك لا يترتب إلا أن يكون "سكن"؛ بمعنى: "استقر؛ وثبت"؛ وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن؛ ألا ترى إلى الفلك؛ والشمس؛ والقمر؛ والنجوم السابحة؛ والملائكة؛ وأنواع الحيوان؟ والليل والنهار حاصران للزمان. السدي
وهو السميع العليم ؛ هاتان صفتان تليقان بنمط الآية من قبل أن ما ذكر قبل من الأقوال الردية عن الكفرة العادلين؛ هو سميع لها؛ عليم بمواقعها؛ مجاز عليها؛ ففي الضمير وعيد.