وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
الضمير في قوله تعالى "وأقسموا"؛ عائد على المشركين المتقدم ذكرهم؛ و"جهد"؛ نصب على المصدر؛ والعامل فيه: "وأقسموا"؛ على مذهب ؛ لأنه في معناه؛ وعلى مذهب سيبويه فعل من لفظه؛ واللام في قوله تعالى "لئن"؛ لام موطئة للقسم؛ مؤذنة به؛ وأما اللام المتلقية للقسم؛ فهي قوله - سبحانه -: "ليؤمنن"؛ و"آية" يريد: علامة. أبي العباس المبرد
وحكي أن الكفار لما نزلت: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ؛ أقسموا حينئذ أنها إن نزلت آمنوا؛ فنزلت هذه الآية؛ وحكي أنهم اقترحوا أن يعود "الصفا" ذهبا؛ وأقسموا على ذلك؛ فقام رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - يدعو في ذلك؛ فجاءه جبريل - عليه السلام -؛ فقال له: "إن شئت أصبح ذهبا؛ فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة؛ كما فعل بالأمم إذ لم تؤمن بالآيات المقترحة؛ وإن شئت أخروا حتى يتوب تائبهم"؛ فقال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "بل حتى يتوب تائبهم"؛ ونزلت هذه الآية؛ وقرأ : "ليؤمنن"؛ بفتح الميم؛ والنون؛ وبالنون الخفيفة. ابن مصرف
ثم قال تعالى "قل لهم يا محمد - على جهة الرد والتخطئة -: إنما الآيات بيد الله تعالى ؛ وعنده؛ ليست عندي؛ فتقترح علي"؛ ثم قال - سبحانه -: "وما يشعركم"؛ فاختلف المتأولون في: من المخاطب بقوله تعالى "وما يشعركم"؟ ومن المستفهم بـ "وما"؛ التي يعود عليها [ ص: 439 ] الضمير الفاعل في "يشعركم"؟ فقال ؛ مجاهد : المخاطب بذلك الكفار؛ وقال وابن زيد وغيره: المخاطب بها المؤمنون؛ "وما يشعركم"؛ معناه: "وما يعلمكم؟"؛ و"وما يدريكم؟"؛ وقرأ قوم: "يشعركم"؛ بسكون الراء؛ وهي على التخفيف؛ ويحسنها أن الخروج من كسرة إلى ضمة. الفراء
وقرأ ؛ ابن كثير ؛ وأبو عمرو - في رواية وعاصم داود الإيادي -: "إنها"؛ بكسر الألف؛ على القطع؛ واستئناف الإخبار؛ فمن قرأ: "تؤمنون"؛ بالتاء - وهي قراءة ؛ ابن عامر -؛ استقامت له المخاطبة أولا وآخرا للكفار؛ ومن قرأ: "يؤمنون" بالياء - وهي قراءة وحمزة ؛ ابن كثير ؛ ونافع ؛ وأبي عمرو -؛ فيحتمل أن يخاطب أولا وآخرا المؤمنين؛ ويحتمل أن يخاطب بقوله تعالى "وما يشعركم"؛ الكفار؛ ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين؛ ومفعول "يشعركم"؛ الثاني محذوف؛ ويختلف تقديره بحسب كل تأويل؛ وقرأ والكسائي ؛ نافع - في رواية وعاصم حفص -؛ ؛ وحمزة ؛ والكسائي : "أنها"؛ بفتح الألف؛ فمنهم من جعلها "أن" التي تدخل على الجمل؛ وتأتي بعد الأفعال؛ كـ "علمت"؛ و"ظننت"؛ وأعمل فيها "يشعركم"؛ والتزم بعضهم أن "لا"؛ زائدة في قوله - سبحانه -: وابن عامر "لا يؤمنون"؛ وأن معنى الكلام: "وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون"؛ أو: "تؤمنون"؛ فزيدت "لا"؛ كما زيدت في قوله تعالى وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ؛ لأن المعنى: "وحرام على قرية مهلكة رجوعهم"؛ وكما جاءت في قول الشاعر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... "نعم" من فتى لا يمنع الجود قاتله
قال : أراد: "أبى جوده البخل"؛ كما جاءت زائدة في قول الشاعر: الزجاج
[ ص: 440 ]
أفمنك لا برق كأن وميضه ... غاب تسنمه ضرام مثقب
ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى؛ لأنها لو لم تكن زائدة لعاد الكلام عذرا للكفار؛ وفسد المراد بالآية؛ وضعف وغيره زيادة "لا"؛ وقال: هذا غلط؛ ومنهم من جعل "أنها"؛ بمعنى: "لعلها"؛ وحكاها الزجاج عن سيبويه وهو تأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة "لا"؛ وحكى الخليل؛ أنه كذلك في مصحف الكسائي : "وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون"؛ ومن هذا المعنى قول الشاعر: أبي بن كعب
قلت لشيبان ادن من لقائه ... أن تغذي القوم من شوائه
فهذه كلها بمعنى "لعل"؛ وضعف هذا؛ بأن التوقع الذي فيه لا يناسب الآية بعد؛ التي حكمت بأنهم لا يؤمنون؛ وترجح عنده في الآية أن تكون "أن"؛ على بابها؛ وأن يكون المعنى: "قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون"؛ فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم"؛ وتكون الآية نظير قوله تعالى أبو علي وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ؛ أي: "بالآيات المقترحة".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويترتب على هذا التأويل أن تكون "وما"؛ نافية؛ ذكر ذلك ؛ فتأمل؛ وترجح عنده أيضا أن تكون "لا"؛ زائدة؛ وبسط شواهده في ذلك؛ وحكى بعض المفسرين أن في آخر الآية حذفا يستغنى به عن زيادة "لا"؛ وعن تأويلها بمعنى "لعل"؛ وتقديره عندهم: "أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون". أبو علي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول ضعيف؛ لا يعضده لفظ الآية؛ ولا يقتضيه؛ [ ص: 441 ] وتحتمل الآية أن يكون المعنى يتضمن الإخبار أنهم لا يؤمنون؛ وقيل لهم: "وما يشعركم بهذه الحقيقة؟"؛ أي: "لا سبيل إلى شعوركم بها؛ وهي حق في نفسها؛ وهم لا يؤمنون أن لو جاءت"؛ و"وما"؛ استفهام؛ على هذا التأويل؛ وفي مصحف : "وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون". ابن مسعود
وقوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا ؛ المعنى على ما قالت فرقة: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار؛ وفي لهيبها؛ في الآخرة؛ لما لم يؤمنوا في الدنيا"؛ ثم استأنف على هذا: "ونذرهم"؛ في الدنيا؛ "في طغيانهم يعمهون".
وقالت فرقة: إنما المراد بالتقليب: التحويل عن الحق؛ والهدى؛ والترك في الضلالة؛ والكفر؛ ومعنى الآية: "إن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية؛ نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم؛ أن لو جاءت فلا يؤمنون بها؛ كما لم يؤمنوا أول مرة؛ بما دعوا إليه من عبادة الله تعالى "؛ فأخبر الله تعالى - على هذا التأويل - بصورة فعله بهم.
وقرأ : "يذرهم"؛ بالياء؛ ورويت عن أبو رجاء ؛ وقرأ عاصم : "ويقلب"؛ "ويذرهم"؛ بالياء؛ فيهما؛ كناية عن الله - تبارك وتعالى -؛ وقرأ أيضا - فيما روى عنه إبراهيم النخعي مغيرة -: "وتقلب"؛ بفتح التاء؛ واللام؛ بمعنى: "وتتقلب أفئدتهم وأبصارهم"؛ بالرفع فيهما؛ "ويذرهم"؛ بالياء؛ وجزم الراء.
وقالت فرقة: قوله تعالى "كما"؛ في هذه الآية؛ إنما بمعنى المجازاة؛ أي: "لما لم يؤمنوا أول مرة؛ نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى؛ ونطبع على قلوبهم"؛ فكأنه سبحانه قال: "ونحن نقلب أفئدتهم؛ وأبصارهم؛ جزاء؛ لما لم يؤمنوا أول مرة؛ بما دعوا إليه من الشرع".
[ ص: 442 ] والضمير في "به"؛ يحتمل أن يعود على الله - عز وجل -؛ أو على القرآن؛ أو على النبي - عليه الصلاة والسلام -؛ "ونذرهم"؛ معناه: نتركهم؛ وقرأ ؛ الأعمش والهمذاني: "ويذرهم"؛ بالياء؛ وجزم الراء؛ على وجه التخفيف.
و"الطغيان": التخبط في الشر؛ والإفراط فيما يتناوله المرء؛ و"العمى": التردد؛ والحيرة.