أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون
تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك ظاهر الإثم وباطنه؛ وغير ذلك؛ وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم؛ وغير ذلك؛ فمثل الله - عز وجل - في الطائفتين؛ بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا؛ هذا معنى قول - رضي الله عنهما -؛ ابن عباس ؛ وغيرهما؛ وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها؛ ليبين - عز وجل - الفارق بين الطائفتين؛ والبون بين المنزلتين. ومجاهد
وقرأ جمهور الناس: "أومن"؛ بفتح الواو؛ فهي ألف استفهام؛ دخلت على واو عطف جملة على جملة؛ و"من"؛ بمعنى "الذي"؛ وقرأ : "أفمن"؛ بالفاء؛ والمعنى قريب من معنى الواو؛ والفاء في قوله تعالى طلحة بن مصرف "فأحييناه"؛ عاطفة؛ و "نورا"؛ أمكن ما يعنى به: الإيمان؛ و "يمشي به"؛ يراد به جميع التصرف في الأفعال؛ والأقوال؛ قال : ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم القيامة؛ و أبو علي "في الناس"؛ متعلق بـ "يمشي"؛ ويصح أن يتعلق بـ "كان ميتا"؛ وقوله تعالى [ ص: 453 ] "كمن مثله"؛ بمنزلة: "كمن هو"؛ والكاف في قوله تعالى كذلك زين ؛ متعلقة بمحذوف؛ يدل ظاهر الكلام عليه؛ تقديره: "وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نورا؛ كذلك زين للكافرين..."؛ ويحتمل أن يتعلق بقوله تعالى "كمن مثله"؛ أي: "كهذه الحال هو التزيين".
وقرأ وحده: "ميتا"؛ بكسر الياء؛ وشدها؛ وقرأ الباقون: "ميتا"؛ بسكون الياء؛ قال نافع : التخفيف كالتشديد؛ والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو؛ أعلت بالحذف؛ كما أعلت بالقلب. أبو علي
وقالت طائفة: إن هذه الألفاظ التي مثل بها؛ وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر؛ فإنما نزلت في مخصوصين؛ فقال : المؤمن الذي كان ميتا فأحيي الضحاك - رضي الله عنه -؛ وحكى عمر بن الخطاب المهدوي عن بعضهم أنه - رضي الله عنه -؛ وقال حمزة بن عبد المطلب : عكرمة - رضي الله عنه -؛ وقال عمار بن ياسر : جاء في التفسير أنه يعني به النبي - صلى اللـه عليه وسلم. الزجاج
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: واتفقوا على أن الذي في الظلمات: أبو جهل بن هشام ؛ وإلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة؛ والتشبيه؛ بقوله تعالى وكذلك جعلنا في كل قرية ؛ وهذه الآية تتضمن إنذارا بفساد حال الكفرة؛ المتقدم ذكرهم؛ لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظائرهم؛ وقال : نزلت هذه الآية في المستهزئين. عكرمة
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: يعني أن التمثيل لهم؛ و"جعلنا"؛ في هذه الآية؛ بمعنى "صيرنا"؛ فهي تتعدى إلى مفعولين؛ فالمفعول الأول: "مجرميها"؛ والثاني: "أكابر"؛ وفي الكلام - على هذا - تقديم وتأخير؛ تقديره: "وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر"؛ وقدم الأهم؛ إذ لعلة كبرهم أجرموا؛ ويصح أن يكون المفعول الأول: "أكابر"؛ و"مجرميها"؛ مضافا؛ والمفعول الثاني قوله - سبحانه -: في كل قرية ؛ و"ليمكروا"؛ نصب بلام الصيرورة.
والأكابر جمع "أكبر"؛ كما "الأفاضل"؛ جمع "أفضل"؛ ويقال: "أكابرة"؛ كما يقال: "أحمر"؛ و"أحامرة"؛ ومنه قول الشاعر:
[ ص: 454 ]
إن الأحامرة الثلاثة أتلفت ... مالي وكنت بهن قدما مولعا
يريد: الخمر؛ واللحم؛ والزعفران؛ و"المكر": التحيل بالباطل؛ والخديعة؛ ونحوهما؛ وقوله تعالى وما يمكرون إلا بأنفسهم ؛ يريد: لرجوع وبال ذلك عليهم؛ "وما يشعرون"؛ أي: ما يعلمون؛ وهي لفظة مأخوذة من الشعار؛ وهو الشيء الذي يلي البدن؛ فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس؛ وفي ذلك مبالغة في صفة جهله؛ إذ البهائم تعلم علوم الحس؛ وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة.