قوله - عز وجل -:
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون
[ ص: 460 ] "ويوم"؛ نصب بفعل مضمر؛ تقديره: "واذكر يوم..."؛ ويحتمل أن يكون العامل: "وليهم"؛ والعطف على موضع قوله: "بما كانوا"؛ والضمير في "يحشرهم"؛ عائد على الطائفتين: الذين يجعل الله تعالى الرجس عليهم؛ وهم جميع الكفار؛ جنا؛ وإنسا؛ والذين لهم دار السلام؛ جنا؛ وإنسا؛ ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله تعالى "جميعا".
وقرأ حفص عن : "يحشرهم"؛ بالياء؛ وقرأ الباقون بالنون؛ وكل متجه. عاصم
ثم ذكر - عز وجل - ما يقال للجن الكفرة؛ وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام؛ تقديره: "نقول يا معشر الجن..."؛ وقوله تعالى "قد استكثرتم"؛ معناه: "فرطتم"؛ و"من الإنس"؛ يريد في إغوائهم؛ وإضلالهم؛ قاله ؛ ابن عباس ؛ ومجاهد ؛ وقال الكفار من الإنس؛ وهم أولياء الجن الموبخين؛ على جهة الاعتذار عن الجن: وقتادة ربنا استمتع بعضنا ببعض ؛ أي: انتفع.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وذلك في وجوه كثيرة: حكى وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية؛ ومواضع الخوف؛ وكانت الجن تتعظم على الإنس؛ وتسودها؛ كما يفعل العربي بالكاهن؛ والمجير بالمستجير؛ إذ كان العربي إذا نزل واديا ينادي: "يا رب الوادي؛ إني أستجير بك هذه الليلة"؛ ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جنيي ذلك الوادي؛ فهذا استمتاع بعضهم ببعض. الطبري
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا مثال في الاستمتاع؛ ولو تتبع لتبينت له وجوه أخر؛ كلها دنيوية.
وبلوغ الأجل المؤجل؛ قال : هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه؛ وقيل: هو الحشر؛ وقيل: هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع؛ كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك؛ إذ لكل كتاب أجل؛ وقرأ السدي "وبلغنا أجلنا"؛ بكسر اللام؛ مشددة. الحسن:
[ ص: 461 ] وقوله تعالى قال النار مثواكم ؛ الآية؛ إخبار من الله - عز وجل - عما يقول لهم يوم القيامة؛ إثر كلامهم المتقدم؛ وجاء الفعل بلفظ الماضي - وهو في الحقيقة مستقبل - لصحة وقوعه؛ وهذا كثير في القرآن؛ وفصيح الكلام؛ و"مثواكم"؛ أي موضع ثوابكم؛ كمقامكم؛ الذي هو موضع الإقامة؛ هذا قول وغيره؛ قال الزجاج في "الإغفال": المثوى عندي: مصدر لا موضع له؛ وذلك لعمله في الحال التي هي "خالدين"؛ والموضع ليس فيه معنى فعل؛ فيكون عاملا؛ والتقدير: "النار ذات ثوائكم"؛ والاستثناء في قوله تعالى أبو علي إلا ما شاء الله ؛ قالت فرقة: "ما"؛ بمعنى "من"؛ فالمراد: "إلا من شاء تعالى ؛ ممن آمن في الدنيا؛ بعد أن آمن؛ من هؤلاء الكفرة".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ولما كان هؤلاء صنفا؛ ساغت في العبارة عنهم "ما"؛ وقال : "إلا"؛ بمعنى "سوى"؛ والمراد: "سوى ما يشاء تعالى ؛ من زيادة في العذاب"؛ ونحا إليه الفراء ؛ وقال الزجاج : إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم؛ إلى دخولهم النار. الطبري
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وساغ هذا من حيث العبارة بقوله تعالى النار مثواكم ؛ لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره؛ وقال عن الطبري : إنه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله تعالى ؛ ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي [بها] لأحد أن يحكم على الله تعالى في خلقه؛ لا ينزلهم جنة؛ ولا نارا. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والإجماع على ولا يصح هذا عن التخليد الأبدي في الكفار؛ - رضي الله عنهما. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - وأمته؛ وليس مما يقال يوم القيامة؛ والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله تعالى ؛ كأنه لما أخبرهم [ ص: 462 ] أنه قال للكفار: النار مثواكم ؛ استثنى لهم من يمكن أن يؤمن منهم.
و حكيم عليم ؛ صفتان مناسبتان لهذه الآية؛ لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء.
وقوله تعالى وكذلك نولي ؛ قال : "نولي"؛ معناه: "نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم". قتادة
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا التأويل يؤيده ما تقدم من ذكر الجن؛ والإنس؛ واستمتاع بعضهم ببعض؛ وقال أيضا: معنى: "نولي": "نتبع بعضهم بعضا في دخول النار"؛ أي: "نجعل بعضهم يلي بعضا"؛ وقال قتادة : معناه: "نسلط بعض الظالمين على بعض؛ ونجعلهم أولياء النقمة منهم". ابن زيد
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا التأويل لا تؤيده ألفاظ الآية المتقدمة؛ أما إنه حفظ في استعمال الصحابة والتابعين؛ من ذلك ما روي أن لما بلغه أن عبد الله بن الزبير قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد الأشدق؛ صعد المنبر فقال: "إن فم الذبان قتل لطيم الشيطان"؛ و وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون .