هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
"ينظرون"؛ معناه: ينتظرون؛ و"التأويل" - في هذا الموضع - بمعنى: "المآل"؛ و"العاقبة"؛ قاله ؛ قتادة ؛ وغيرهما؛ وقال ومجاهد : "تأويله": مآله يوم القيامة؛ وقال ابن عباس : ذلك في الدنيا؛ وقعة السدي بدر وغيرها؛ ويوم القيامة أيضا؛ والمراد: "هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا مآل الحال في هذا الدين؛ وما دعوا إليه؛ وما صدوهم عنه؛ وهم يعتقدون مآله جميلا لهم"؛ فأخبر الله - عز وجل - أن مآله يوم يأتي يقع معه ندمهم؛ ويقولون تأسفا على ما فاتهم من الإيمان: لقد صدقت الرسل وجاؤوا بالحق؛ فالتأويل - على هذا - مأخوذ من: "آل؛ يؤول"؛ وقال الخطابي : "أولت الشيء": رددته إلى أوله؛ فاللفظة مأخوذة من "الأول"؛ حكاه . النقاش
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد قيل: "أولت"؛ معناه: طلبت أول الوجوه؛ والمعاني.
و"نسوه"؛ في الآية؛ يحسن أن يكون النسيان من أول الآية بمعنى الترك.
ويقرون بالحق ويستفهمون عن وجوه الخلاص في وقت لا مستعتب لهم فيه؛ وقرأت فرقة: "أو نرد"؛ برفع الفعل؛ على تقدير: "أو هل نرد؟"؛ وبنصب "فنعمل"؛ في جواب هذا [ ص: 577 ] الاستفهام الأخير؛ وقرأ "أو نرد فنعمل"؛ بالرفع فيهما؛ على عطف "نعمل"؛ وقرأ الحسن بن أبي الحسن: ابن أبي إسحاق ؛ وأبو حيوة: "أو نرد فنعمل"؛ ونصب "نرد"؛ في هذه القراءة إما على العطف على قوله: "فيشفعوا"؛ وإما بما حكاه من أن "أو"؛ تكون بمعنى "حتى"؛ كنحو قول الفراء امرئ القيس:
................. ... ..........أو نموت فنعذرا
ويجيء المعنى أن الشفاعة تكون في أن يردوا؛ ثم أخبر تعالى عن خسارتهم أنفسهم؛ واضمحلال افترائهم على الله تعالى وكذبهم في جعل الأصنام آلهة.
وقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ؛ الآية؛ خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة عليه بدلائله؛ و"الرب"؛ أصله في اللغة: المصلح؛ من "رب؛ يرب"؛ وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى "المالك"؛ و"السيد"؛ وغير ذلك من استعمالات العرب؛ ولا يقال: "الرب"؛ معرفا؛ إلا لله تعالى ؛ وإنما يقال في البشر بإضافة؛ وروى بكار بن الشقير: "إن ربكم الله"؛ بنصب الهاء؛ وقوله تعالى في ستة أيام ؛ حكى عن الطبري أن اليوم كألف سنة؛ وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى ؛ وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله - عز وجل - بعلمه؛ كسائر أحوال الشرائع؛ وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا - مجاهد كالمهدوي وغيره - تخرص؛ وجاء في التفسير؛ وفي الأحاديث؛ أن الله تعالى ابتدأ الخلق يوم الأحد؛ وكملت المخلوقات يوم الجمعة؛ ثم بقي دون خلق يوم السبت؛ ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها؛ وعلى هذا توالت تفاسير وغيره؛ ولليهود - لعنهم الله تعالى - في هذا كلام سوء - تعالى الله عما يصفون. الطبري
[ ص: 578 ] ووقع حديث في كتاب ؛ في كتاب "الدلائل"؛ مسلم بن الحجاج لثابت السرقسطي أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت؛ وذكره في "الهداية". مكي
وقوله تعالى استوى على العرش ؛ معناه عند أبي المعالي؛ وغيره من حذاق المتكلمين: "بالملك والسلطان"؛ وخص العرش بالذكر تشريفا له؛ إذ هو أعظم المخلوقات؛ وقال : فعل فعلا في العرش سماه "استواء". سفيان الثوري
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والعرش مخلوق معين؛ جسم ما؛ هذا الذي قررته الشريعة؛ وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال: العرش: مصدر "عرش؛ يعرش؛ عرشا"؛ والمراد بقوله: استوى على العرش هذا.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم.
وقرأ ؛ ابن كثير ؛ ونافع ؛ وأبو عمرو : "يغشي"؛ من "أغشى"؛ وقرأ وابن عامر في رواية عاصم - رضي الله عنه -؛ أبي بكر ؛ وحمزة : "يغشي"؛ بالتشديد؛ من "غشى"؛ وهما طريقان في تعدية "غشى"؛ إلى مفعول ثان؛ وقرأ والكسائي حميد: "يغشى"؛ بفتح الياء؛ والشين؛ ونصب "الليل"؛ ورفع "النهار"؛ كذا قال أبو الفتح؛ وقال برفع "الليل"؛ ونصب "النهار". أبو عمرو الداني
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وأبو الفتح أثبت.
[ ص: 579 ] و"حثيثا"؛ معناه: سريعا؛ و يطلبه حثيثا ؛ حال من "الليل"؛ بحسب اللفظ؛ على قراءة الجماعة؛ ومن "النهار"؛ بحسب المعنى؛ وأما على قراءة حميد؛ فمن "النهار"؛ في الوجهين؛ ويحتمل أن يكون حالا منهما؛ ومثله قوله تعالى فأتت به قومها تحمله ؛ فيصح أن يكون "تحمله"؛ حالا منها؛ وأن يكون حالا منه؛ وأن يكون حالا منهما؛ و"مسخرات"؛ في موضع الحال؛ وقرأ وحده من السبعة: "والشمس والقمر والنجوم مسخرات"؛ بالرفع في جميعها؛ ونصب الباقون هذه الحروف كلها؛ وقرأ ابن عامر : "والشمس والقمر"؛ بالنصب؛ "والنجوم مسخرات"؛ بالرفع. أبان بن تغلب
و"ألا"؛ استفتاح كلام؛ فاستفتح بها؛ في هذا الموضع؛ هذا الخبر الصادق المرشد.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وأخذ المفسرون "الخلق"؛ بمعنى: المخلوقات؛ أي: "هي له كلها؛ وملكه واختراعه"؛ وأخذوا "الأمر"؛ مصدرا من "أمر؛ يأمر"؛ وعلى هذا قال وغيره: إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن؛ لأنه فرق فيها بين المخلوقات؛ وبين الأمر؛ إذ "والأمر"؛ كلامه - عز وجل. النقاش
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحتمل أن تؤخذ لفظة "الخلق"؛ على المصدر من "خلق؛ يخلق؛ خلقا"؛ أي: "له هذه الصفة؛ إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم"؛ ويؤخذ "والأمر" على أنه واحد "الأمور"؛ إلا أنه يدل على الجنس؛ فيكون بمنزلة قوله تعالى وإليه يرجع الأمر كله ؛ وبمنزلة [ ص: 580 ] قوله تعالى وإلى الله ترجع الأمور ؛ فإذا أخذت اللفظتان هكذا؛ خرجتا عن مسألة الكلام.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ولما تقدم في الآية "خلق"؛ و"بأمره"؛ تأكد في آخره أن له الخلق والأمر المصدرين حسب تقدمهما؛ وكيفما تأولت الآية فالجميع لله تعالى ؛ وأسند إلى النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: الطبري "من زعم أن الله - تبارك وتعالى - جعل لأحد من العباد شيئا من الأمر فقد كفر بما أنزل الله تعالى لقوله - تبارك وتعالى -: ألا له الخلق والأمر ". قال : ذكر الله تعالى الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعا؛ في جميعها أنه مخلوق؛ وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا؛ ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق؛ وقال النقاش : "الخلق"؛ عبارة عن الدنيا؛ و"الأمر"؛ عبارة عن الآخرة؛ و"تبارك"؛ لا يتصرف في كلام العرب؛ لا يقال منه "يتبارك"؛ وهذا منصوص عليه لأهل اللسان. الشعبي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وعلة ذلك أن "تبارك"؛ لما لم يوصف بها غير الله تعالى ؛ لم تقتض مستقبلا؛ إذ الله تعالى قد تبارك في الأزل؛ وقد غلط بها القالي؛ فقيل له: كيف المستقبل من "تبارك"؟ فقال: "يتبارك"؛ فوقف على أن العرب لم تقله؛ و"الرب": السيد المصلح؛ و"العالمين"؛ جمع "عالم". أبو علي