فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين
[ ص: 27 ] كان القصد في إصابتهم بالقحط والنقص في الثمرات أن ينيبوا ويرجعوا فإذا بهم قد ضلوا وجعلوها تشاؤما بموسى، فكانوا إذا اتفق لهم اتفاق حسن في غلات ونحوها قالوا: هذا لنا وبسببنا وعلى الحقيقة لنا، وإذا نالهم ضر قالوا: هذا بسبب موسى وشؤمه، قاله وغيره. وقرأ جمهور الناس بالياء وشد الطاء والياء الأخيرة "يطيروا" ، وقرأ مجاهد ، عيسى بن عمر بالتاء وتخفيف الطاء: "تطيروا" ، وقرأ وطلحة بن مصرف : "تشاءموا مجاهد بموسى" بالتاء من فوق وبلفظ الشؤم.
وقوله تعالى: ألا إنما طائرهم معناه: حظهم ونصيبهم، قاله ، وهو مأخوذ من زجر الطير، فسمي ما عند الله من القدر للإنسان طائرا لما كان الإنسان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر، فهي لفظة مستعارة، وقرأ جمهور الناس: "طائرهم" ، وقرأ ابن عباس "طيرهم" . وقال تعالى: "أكثرهم" وجميعهم لا يعلم إما لأن القليل علم كالرجل المؤمن الحسن بن أبي الحسن: وآسية امرأة فرعون، وإما أن يراد الجميع وتجوز في العبارة لأجل الإمكان، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "طائرهم" لجميع العالم ويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره، ويحتمل أن يريد: ولكن أكثرهم ليس قريبا أن يعلم لانغمارهم في الجهل، وعلى هذا فيهم قليل معد لأن يعلم لو وفقه الله.
و"مهما" أصلها عند "ما ما" فبدلت الألف الأولى هاء، وقال الخليل : هي "مه ما" خلطتا، وهي حرف واحد، وقال غيره: معناها: "مه وما" جزاء، ذكره سيبويه ، وهذه الآية تتضمن طغيانهم وعتوهم وقطعهم على أنفسهم بالكفر البحت. الزجاج
وقوله تعالى: فأرسلنا عليهم الطوفان الآية، قال : الطوفان: جمع طوفانة، وهذه عقوبات وأنواع من العذاب بعثها الله عليهم ليزدجروا وينيبوا، والطوفان: مصدر من قولك: طاف يطوف فهو عام في كل شيء يطوف، إلا أن استعمال العرب له كثر في الماء والمطر الشديد، ومنه قول الشاعر: الأخفش
[ ص: 28 ]
غير الجدة من آياتها ... خرق الريح وطوفان المطر
ومنه قول أبي النجم :
قد مد طوفان فبث مددا ... شهرا شآبيب وشهرا بردا
وقال ، ابن عباس ، ومجاهد : إن الطوفان في هذه الآية المطر الشديد أصابهم وتوالى عليهم حتى هدم بيوتهم وضيق عليهم. وقيل: طم فيض النيل عليهم، وروي في كيفيته قصص كثير. وقالت والضحاك رضي الله عنها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الطوفان المراد في هذه الآية هو الموت"، وقال رضي الله عنهما في بعض ما روي عنه: هو مصدر معمى، عني به شيء أطافه الله تبارك وتعالى بهم. ابن عباس
والجراد معروف، قال : هو جمع جرادة للمذكر والمؤنث، فإن أردت الفصل قلت: رأيت جرادة ذكرا، وروي أن الله عز وجل لما والى عليهم المطر غرقت أرضهم ومنعوا ،الزراعة قالوا: يا الأخفش موسى ادع في كشف هذا عنا ونحن نؤمن، فدعا، فدفعه الله عنهم فأنبتت الأرض إنباتا حسنا، فطغوا وقالوا: ما نود أنا لم نمطر، وما هذا إلا إحسان من الله إلينا، فبعث الله حينئذ الجراد، فأكل جميع ما أنبتت الأرض، وروى عن ابن وهب أنه روي أنه أكل أبوابهم وأكل الحديد والمسامير، وضيق عليهم غاية التضييق، وترك الله من نباتهم ما يقوم به الرمق، فقالوا مالك لموسى: ادع في كشف الجراد ونحن نؤمن، فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم، ورأوا أن ما أقام رمقهم قد كفاهم، فبعث الله عليهم القمل وهي الدبى صغار الجراد الذي يثب ولا يطير، [ ص: 29 ] قاله ، ابن عباس ، ومجاهد . وقيل: هو الحمنان وهو صغار القردان. وقيل: هو البراغيث، وقال وقتادة رضي الله عنهما: القمل: السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل: القمل: حيوان صغير جدا أسود، وإنه بأرض ابن عباس مصر حتى الآن، قال : القمل: الجعلان، وقرأ حبيب بن أبي ثابت "القمل" بفتح القاف وسكون الميم، فهي -على هذا- بينة، إذ هو القمل المعروف. وروي أن الحسن: موسى مشى بعصاه إلى كثيب أهيل، فضربه فانتشر كله قملا في مصر، ثم إنهم قالوا: ادع في كشف هذا فدعا، ورجعوا إلى طغيانهم وكفرهم.
وبعث الله تبارك وتعالى عليهم الضفادع، فكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم، وإذا هم الرجل أن يتكلم وثب الضفدع في فمه، قال : كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، وقال ابن جبير رضي الله عنهما: كانت الضفادع برية، فلما أرسلت على آل ابن عباس فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف أنفسها في القدور وهي تغلي فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء. فقالوا: ادع في كشف هذا، فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم وعتوهم، فبعث الله عليهم الدم فرجع ماؤهم الذي يستسقونه ويحصل عندهم دما، فروي أن الرجل منهم كان يستقي من البئر فإذا ارتفع إليه الدلو عاد دما، وروي أنه كان يستقي القبطي والإسرائيلي بإناء واحد فإذا خرج الماء كان الذي يلي القبطي دما والذي يلي الإسرائيلي ماء، إلى نحو هذا وشبهه من العذاب بالدم المنقلب عن الماء، هذا قول جماعة المتأولين. وقال : إنما سلط الله عليهم الرعاف فهذا معنى قوله تعالى: "والدم". زيد بن أسلم
وقوله تعالى: آيات مفصلات التفصيل أصله في الأجرام إزالة الاتصال، فهو تفريق شيئين، فإذا استعمل في المعاني فيراد أنه فرق بينها وأزيل اشتراكها وإشكالها، فيجيء من ذلك بيانها وقالت فرقة من المفسرين: "مفصلات" يراد به مفرقات بالزمن، والمعنى أنه كان العذاب يرتفع ثم يبقون مدة قيل: شهر، وقيل: ثمانية أيام ثم يرد الآخر، فالمراد أن هذه الأنواع من العذاب لم تجئ جملة ولا متصلة، [ ص: 30 ] ثم وصفهم الله عز وجل بالاستكبار عن الآيات والإيمان، وبأنهم كان لهم اجترام على الله تبارك وتعالى وعلى عباده.