قوله عز وجل:
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين
قال المتأولون المتكلمون كالقاضي الباقلاني وغيره: "إن الله عز وجل خلق للجبل حياة وحسا وإدراكا يرى به ثم تجلى له، أي ظهر وبدا سلطانه، فاندك الجبل لشدة المطلع، فلما رأى موسى ما بالجبل صعق"، وهذا المعنى هو المروي عن ، وأسند ابن عباس عن الطبري حماد بن زيد عن ثابت عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" قال: فوضع الإبهام قريبا من خنصره، قال: فساخ الجبل، [ ص: 42 ] فقال أنس حميد لثابت: تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدره، وقال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله وأكتمه أنا؟ . أنس
وقالت فرقة: المعنى: فلما تجلى الله للجبل بقدرته وسلطانه اندك الجبل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا التأويل يتمسك به المعتزلة تمسكا شديدا لقولهم: إن رؤية الله عز وجل غير جائزة، وقائله من أهل السنة إنما يقوله مع اعتقاده ولكنه يقول: إنه أليق بألفاظ الآية من أن تحمل الآية أن الجبل خلق له إدراك وحياة، وقال جواز الرؤية، : من قال: إن التقدير: "فلما تجلى أمر ربه" فقد أخطأ، ولا يعرف أهل اللغة ذلك، ورد الزجاج في "الأغفال" عليه. أبو علي
والدك: الانسحاق والتفتت، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم، ، وابن مسعود ، وأنس بن مالك ، والحسن ، وأبو جعفر وشيبة ، ومجاهد وابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم : "دكا" ، وقرأ وابن عامر ، حمزة ، والكسائي ، وابن عباس ، وغيرهم: "دكاء" على وزن حمراء، والدكاء: الناقة التي لا سنام لها، فالمعنى: جعله أرضا دكاء تشبيها بالناقة، فروي أنه ذهب الجبل برمته، وقيل: ذهب أعلاه وبقي أكثره، وروي أن الجبل تفتت وانسحق حتى صار غبارا تذروه الرياح، وقال والربيع بن خثيم : روي أنه ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين. قال سفيان : فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة، وروي أنه انكسر ست فرق، فوقعت منه ثلاث ابن الكلبي بمكة: ثبير، وغار ثور، وحراء، وثلاث بالمدينة: أحد، وورقان، ورضوى، قاله . وقال النقاش أبو بكر الهذلي : ساخ في الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة.
و"صعقا" معناه: مغشيا عليه كحال من تصيبه الصعقة وهي الصيحة المفرطة، قال الخليل: وهي الوقع الشديد من صوت الرعد، قاله وجماعة من المفسرين، وقال ابن زيد : كان موتا، قال قتادة : وهو ضعيف، ولفظة "أفاق" تقتضي [ ص: 43 ] غير هذا، وقوله: الزجاج سبحانك أي: تنزيها لك، كذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: تبت إليك معناه: من أن أسألك الرؤية في الدنيا وأنت لا تبيحها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويحتمل عندي أنه لفظ قاله عليه السلام لشدة هول ما اطلع، ولم يعن به التوبة من شيء معين، ولكنه لفظ يصلح لذلك المقام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والذي يتحرز منه أهل السنة أن تكون توبة من سؤال المحال كما زعمت المعتزلة،.
وقرأ : "وأنا" بإثبات الألف في الإدراج، قال نافع ، والأولى حذفها في الإدراج، وإثباتها لغة شاذة الزهراوي خارجة عن القياس، وقوله: "أول" إما أن يريد: من قومه بني إسرائيل، وهو قول ابن عباس ، أو من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق، وإما أن يريد أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، قاله ومجاهد . أبو العالية
ثم إن الله تعالى قرر موسى على آلائه عنده على جهة الإخبار وقنعه بها وأمره بالشكر عليها، وكأنه قال: ولا تتعدها إلى غيرها.
واصطفى أصله: اصتفى، وهو افتعل من صفا يصفو انقلبت التاء طاء لمكان الصاد، ومعناه: تخيرتك وخصصتك، ولا تستعمل إلا في الخير والمنن، لا يقال: اصطفاه لشر، وقوله تعالى: على الناس عام والمراد الخصوص فيمن شارك موسى في الإرسال، فإن الأنبياء المرسلين مشاركون له بما هم رسل، والظاهر من الشريعة أن موسى مخصص بالكلام وإن كان قد روي في تكليم الله غيره أشياء بما يشاء، من أعظمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال: "هو نبي مكلم".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
إلا أن ذلك قد تؤول بأنه كان في الجنة فيتحفظ -على هذا- تخصيص موسى، ويصح أن يكون قوله: على الناس عموما مطلقا في مجموع الدرجتين: الرسالة [ ص: 44 ] والكلام. وقرأ ، حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو ، وعاصم : "برسالاتي" على الجمع، إذ الذي أرسل به ضروب، وقرأ وابن عامر ، ابن كثير : "برسالتي" على الإفراد الذي يراد به الجمع، وتحل الرسالة هاهنا محل المصدر الذي هو الإرسال، وقرأ جمهور الناس: "وبكلامي" ، وقرأ ونافع : "برسالتي وبكلمي" ، وقرأ أبو رجاء : "برسالاتي وبكلمي" ، وحكى عنه الأعمش المهدوي: "وتكليمي" على وزن تفعيلي، وقوله تعالى : فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين تأديب وتقنيع وحمل على جادة السلامة، ومثال لكل أحد في حاله، فإن جميع النعم من عنده بمقدار، وكل الأمور بمرأى من الله ومسمع.
وقوله تعالى: وكتبنا له في الألواح الآية، الضمير في "له" عائد على موسى عليه السلام، والألف واللام في "الألواح" عوض من الضمير الذي يقدر وصله بين "الألواح" و"موسى" عليه السلام، تقديره: في ألواحه، وهذا كقوله تعالى: فإن الجنة هي المأوى أي: مأواه. وقيل: كانت الألواح اثنين، وقيل: سبعة، وقال ، مجاهد رضي الله عنهما: كانت الألواح من زمرد، وقال وابن عباس : من ياقوت أحمر، وقال ابن جبير أيضا: من برد، وقال الحسن: من خشب، وقوله: أبو العالية من كل شيء لفظة عموم، والمراد به كل شيء ينفع في معنى الشرع ويحتاج إليه في المصلحة، وقوله: "لكل شيء" مثله، قال : ما أمروا به ونهوا عنه، وقاله ابن جبير : مجاهد
، وقال : الحلال والحرام. وقوله: "بقوة" معناه: بجد وصبر عليها واحتمال لمؤنتها، قاله السدي رضي الله عنهما ابن عباس ، وقال والسدي : "بقوة" هنا: بطاعة، وقال الربيع بن أنس رضي الله عنهما: أمر ابن عباس موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه، وخذ أصله: أؤخذ، حذفت الهمزة التي هي فاء الفعل على غير قياس، فاستغني عن الأول، وقوله: "بأحسنها" يحتمل معنيين; أحدهما التفضيل، [ ص: 45 ] كأنه قال: إذا اعترض فيها مباحان، فيأخذون الأحسن منهما كالعفو والقصاص، والصبر والانتصار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
هذا على القول أن أفعل في التفضيل لا يقال إلا لما لهما اشتراك في فيه. وأما على القول الآخر فقد يراد بالأحسن المأمور به بالإضافة للمنهي عنه لأنه أحسن منه، وذلك كالناسخ بالنسبة للمنسوخ ونحو هذا، وذهب إلى هذا المعنى المفضل . الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويؤيد هذا التأويل أنه تدخل فيه الفرائض وهي لا تدخل في التأويل الأول، وقد يمكن أن يتصور اشتراك في حسن من المأمور به والمنهي عنه ولو بحسب الملاذ وشهوات النفس الأمارة، والمعنى الآخر الذي يحتمله قوله تعالى: "بأحسنها" أن يريد بـ"أحسن" وصف الشريعة بجملتها، فكأنه قال: قد جعلنا لكم شريعة هي أحسن، كما تقول: "الله أكبر" دون مقايسة، ثم قال: فمرهم يأخذوا بأحسنها الذي شرعناه لهم، وفي هذا التأويل اعتراضات.
وقرأ جمهور الناس: "سأوريكم" ، وقرأ "أوريكم" ، قال الحسن بن أبي الحسن: أبو الفتح: ظاهر هذه القراءة مردود وهو المأثور فصاحته. فوجهها أن المراد "أريكم" ثم أشبعت ضمة الهمزة ومطلت حتى نشأت عنها واو، ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه. وقرأ أبو سعيد قسامة بن زهير : "سأورثكم"، قاله ، ونسبها أبو حاتم المهدوي إلى رضي الله عنهما. [ ص: 46 ] وثبتت الواو في خط المصحف فلذلك أشكل هذا الاختلاف مع أنا لا نتأول إلا أنها مرويات. فأما من قرأها: "سأوريكم" فالمعنى عنده: سأعرض عليكم وأجعلكم تحسون لتعتبروا حال دار الفاسقين. والرؤية هنا رؤية العين إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين والوعيد للفاسقين. ويدل على أنها رؤية العين تعدي فعلها، وقد عدي بالهمزة إلى مفعولين، ولو كان من رؤية القلب لتعدى بالهمزة إلى ثلاثة مفاعيل، ولو قال قائل: المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدر، أي: مدمرة أو خربة أو مسعرة -على قول من قال: هي جهنم- قيل له: ولا يجوز حذف هذا المفعول والاقتصار دونه أنها داخلة على المبتدإ والخبر، ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله عز وجل. ابن عباس
وقال رضي الله عنه، علي بن أبي طالب ، ومقاتل في كتاب وقتادة : دار الفاسقين مصر، والمراد آل فرعون، وقال النقاش أيضا: دار الفاسقين الشام، والمراد العمالقة الذين أمر قتادة موسى عليه السلام بقتالهم، وقال مجاهد : دار الفاسقين جهنم، والمراد الكفرة والحسن بموسى عامة، وقال عن النقاش : دار الفاسقين دور الكلبي ثمود وعاد والأمم الخالية، أي: سنقصها عليكم فترونها.