واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين
اتخذ أصله: ايتخذ، وزنه افتعل، من تخذ. هذا قول . والضمير في "بعده" عائد على أبي علي الفارسي موسى، أي بعد مضيه إلى المناجاة، وأضاف الحلي إلى بني إسرائيل وإن كان مستعارا من القبط -إذ كانوا قد تملكوه- إما بأن نفلوه كما روي، وحكى عن يحيى بن سلام أنه قال: استعار بنو إسرائيل حلي القبط ليوم الزينة، [ ص: 49 ] فلما أمر الحسن موسى أن يسري بهم ليلا تعذر عليهم رد العواري، وأيضا فخشوا أن يفتضح سرهم، ثم إن الله نفلهم إياه، ويحتمل أن يضاف الحلي إلى بني إسرائيل من حيث تصرفت أيديهم فيه بعد غزو آل فرعون.
ويروى أن السامري -واسمه موسى بن ظفر وينسب إلى قرية تسمى سامرة- قال لهارون حين ذهب موسى إلى المناجاة: يا هارون إن بني إسرائيل قد بددوا الحلي الذي استعير من القبط وتصرفوا فيه وأنفقوا منه، فلو جمعته حتى يرى موسى فيه رأيه، قال: فجمعه هارون، فلما اجتمع قال للسامري: أنت أولى الناس بأن يختزن عندك، فأخذه السامري -وكان صائغا- فصاغ منه صورة عجل، وهو ولد البقرة. جسدا أي جثة وجمادا، وقيل: كان جسدا بلا رأس. وهذا تعلق بأن الجسد في اللغة ما عدا الرأس، وقيل: إن الله جعل له لحما ودما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف لأن الآثار في أن موسى برده بالمبارد تكذب ذلك، والخوار: صوت البقر، ويروى أن هذا العجل إنما خار مرة واحدة، وذلك بحيلة صناعية من السامري أو بسحر تركب له من قبضه القبضة من أثر الرسول، أو بأن الله أخار العجل لفتن بني إسرائيل، وقرأت فرقة: "له جوار" بالجيم وهو الصياح، قال : وشدة الصوت. وقرأ أبو حاتم ، ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والحسن ، وأبو جعفر وشيبة : "من حليهم" بضم الحاء وكسر اللام، وهو جمع حلي -على مثال ثدي وثدي- وأصله: حلوي، قلبت الواو ياء وأدغمت فجاء "حلي" فكسرت اللام لتناسب الياء، وقرأ حمزة : "من حليهم" بكسر الحاء على ما قدمنا من التعليل، قال والكسائي : إلا أنهم كسروا الحاء إتباعا لكسرة اللام، قال أبو حاتم : وقوى التغيير الذي دخل على الجمع على هذا التغيير الأخير، قال: ومما يؤكد كسر الفاء في هذا النحو من الجمع قولهم: قسي، قال أبو علي : وقرأ هكذا أبو حاتم ، يحيى بن وثاب ، وطلحة ، وأصحاب والأعمش . وقرأ عبد الله "من حليهم" بفتح الحاء وسكون اللام، فإما أن يكون مفردا يراد به الجمع، وإما أن يكون جمع حلية كتمرة وتمر. ومعنى الحلي: ما يتجمل به من حجارة وذهب وفضة. يعقوب الحضرمي:
ثم بين الله تعالى سوء فطرهم وقرر فساد اعتقادهم بقوله: ألم يروا أنه لا يكلمهم [ ص: 50 ] الآية، وذلك أن الصامت الجماد لا يتصف بالألوهية، والذي لا يرشد إلى خير ولا يكشف غما كذلك، والضمير في "اتخذوه" عائد على العجل، وقوله: "وكانوا" إخبار لنا عن جميع أحوالهم ماضيا وحالا ومستقبلا، ويحتمل أن تكون الواو واو حال، وقد مر في سورة البقرة سبب اتخاذ العجل وبسط تلك الحال بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقرأ جمهور الناس بكسر القاف وضم السين: "سقط في أيديهم" ، وقرأت فرقة: "سقط" بفتح السين والقاف، حكاه ، وقرأ الزجاج : "أسقط" وهي لغة حكاها ابن أبي عبلة بالهمزة المضمومة وسين ساكنة، الطبري والعرب تقول لمن كان ساعيا لوجه أو طالبا غاية ما فعرض ما غلبه وصده عن وجهته وأوقفه موقف العجز عن بغيته، وتيقن أنه قد عجز: سقط في يد فلان، وقال : يقال لمن أقدم على أمر وعجز عنه: سقط في يده. أبو عبيدة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والندم عندي عرض يعرض صاحب هذه الحال، وقد لا يعرضه له، فليس الندم بأصل في هذا، أما أن أكثر أصحاب هذه الحال يصحبهم الندم، وكذلك صحب بني إسرائيل المذكورين في الآية، والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له خارجها تأثير. وقال : المعنى أن الندم سقط في أياديهم، ويحتمل أن الخسران والخيبة سقط في أيديهم. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعلى هذا كله يلزم أن يكون "سقط" يتعدى، فإن "سقط" يتضمن مفعولا وهو هنا المصدر الذي هو الإسقاط، كما يقال: ذهب بزيد، وفي هذا عندي نظر. [ ص: 51 ] وأما قراءة من قرأ: "سقط" على بناء الفعل للفاعل، أو "أسقط" على التعدية بالهمزة فبين في الاستغناء عن التعدي، ويحتمل أن يقال: "سقط في يديه" على معنى التشبيه بالأسير الذي تكتف يداه، فكأن صاحب هذه الحال يستأسر، ويقع ظهور الغلبة عليه في يده، أو كأن المراد سقط بالغلب والقهر في يده، وحدثت عن أبي مروان بن سراج أنه كان يقول: قول العرب "سقط في يده" مما أعياني معناه، وقال : هذا مما دثر استعماله مثل ما دثر استعمال قوله تعالى: الجرجاني فضربنا على آذانهم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا الكلام ضعف، والسقاط في كلام العرب كثرة الخطإ والندم عليه، ومنه قول سويد بن أبي كاهل:
كيف يرجون سقاطي بعدما ... لفع الرأس مشيب
وصلعوقول بني إسرائيل: لئن لم يرحمنا ربنا إنما كان بعد رجوع موسى وتغيره عليهم، ورؤيتهم أنهم قد خرجوا عن الدين ووقعوا في الكفر، وقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، والحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر وشيبة بن نصاح، وغيرهم: "قالوا لئن لم يرحمنا ربنا" بالياء في "يرحمنا" وإسناد الفعل إلى الرب تعالى، "ويغفر" بالياء، وقرأ ومجاهد ، حمزة ، والكسائي ، والشعبي ، وابن وثاب والجحدري، ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش "ترحمنا ربنا" بالتاء في "ترحمنا" ونصب لفظة "ربنا" على جهة النداء "وتغفر" بالتاء، من فوق، وفي مصحف وأيوب: "قالوا ربنا لئن لم ترحمنا وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين" . أبي