لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم
هذه مخاطبة لجميع المؤمنين، يعدد الله نعمه عليهم، و"مواطن" جمع موطن بكسر الطاء، والموطن: موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة، والمواطن المشار إليها بدر ، والخندق، والنضير، وقريظة، ولم يصرف "مواطن" لأنه جمع [ ص: 284 ] ونهاية جمع. و"يوم" عطف على موضع قوله: "في مواطن" أو على لفظة بتقدير: "وفي يوم"، فانحذف حرف الخفض، و"حنين" واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز، وصرف حين أريد به الموضع والمكان، ولو أريد به البقعة لم يصرف، كما قال الشاعر :
نصروا نبيهم وشدوا أزره ... بحنين يوم تواكل الأبطال
وقوله تعالى: إذ أعجبتكم كثرتكم روي وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس، ثم عطف القدر بنصره. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفا: "لن نغلب اليوم من قلة"،
وقوله تعالى: وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي: بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها، فـ "ما" مصدرية.
وقوله: ثم وليتم مدبرين يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفا سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم، فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصاف الناس حمل المشركون من جوانب الوادي، فانهزم المسلمون، قال : ويقال: إن الطلقاء من أهل قتادة مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء، أبو عبد الرحمن الفهري : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكان على فرس قد اكتنفه عمه وابن عمه العباس ، وبين يديه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أيمن بن أم أيمن -وثم قتل رحمه الله- فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض -قاله - واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار، وقال: "شاهت الوجوه"، وقال البراء بن عازب : تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا للأنصار"، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عبد الرحمن أن ينادي: أين أصحاب الشجرة؟ أين أصحاب سورة البقرة؟ فرجع الناس عنقا واحدا وانهزم المشركون، قال العباس يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير. وقال [ ص: 285 ]
وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفا، وهذا غلط. وقوله: "مدبرين" نصب على الحال المؤكدة كقوله: وهو الحق مصدقا ، والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار.
وقوله تعالى: ثم أنزل الله سكينته الآية، "ثم" هاهنا على بابها من الترتيب، والسكينة: النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس والحال، والإشارة بالمؤمنين إلى الأنصار على ما روي، وذلك فانصرفوا وهم ردوا الهزيمة، والجنود: الملائكة والرعب. قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى في ذلك اليوم: "يا معشر الأنصار"، أبو حاجر يزيد بن عامر : "كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب"، وعذاب [ ص: 286 ] الذين كفروا هو القتل الذي استحر فيهم والأسر الذي تمكن في ذراريهم، وكان مالك ابن عوف النصري قد أخرج الناس بالعيال والذراري ليقاتلوا عليها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة، وقال لمالك بن عوف : راعي ضأن، وهل يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد بن الصمة القتلة المشهورة، قتله ربيع بن رفيع بن أهبان السلمي ، ويقال ابن الدغنة.
وقوله تعالى: ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء إعلام بأن من أسلم وتاب من الكفار الذين نجوا ذلك اليوم فإنهم مقبولون مسلمون موعودون بالغفران والرحمة.