قوله عز وجل:
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون
[ ص: 319 ] هذا أمر من الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفير إلى الغزو، فقال بعض الناس: هذا أمر عام لجميع المؤمنين فعبر عنه بالفرض على الأعيان في تلك المدة، ثم نسخه الله عز وجل بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا ، روي ذلك عن الحسن . وعكرمة
وقال جل الناس: بل هذا حض، والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية، ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان.
وأما قوله: خفافا وثقالا فنصب على الحال من الضمير في قوله: "انفروا"، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا، وروي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعلي أن أنفر؟ فقال له: نعم، حتى نزلت: ابن أم مكتوم ليس على الأعمى حرج ، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض، بل هي وجوه متفقة، فقيل: الخفيف: الغني ، والثقيل: الفقير، قاله أن ، وقيل: الخفيف: الشاب والثقيل: الشيخ، قاله مجاهد وجماعة، وقيل: الخفيف: النشيط والثقيل: الكاسل، قاله الحسن ابن عباس ، وقيل: المشغول ومن لا شغل له، قاله وقتادة الحكم بن عيينة ، وقيل: الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف، قاله وزيد بن علي : وقيل: الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل، حكاه ابن زيد ، وقيل: الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف، قاله النقاش . الأوزاعي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذان الوجهان الآخران ينعكسان، وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو، فالشجاع هو الثقيل، وكذلك الفارس، والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل، وكذلك ينعكس الفقير والغني، فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل، ومعنى [ ص: 320 ] هذا أن الناس أمروا جملة، وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة، وقال : ما سمع الله عذر أحد، وخرج إلى أبو طلحة الشام فجاهد حتى مات، وقال : ما أجدني أبدا إلا ثقيلا أو خفيفا، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات أبو أيوب الشام رجلا سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم، إن الله قد عذرك، فقال: يا ابن أخي، إنا قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا، وأسند عمن رأى الطبري المقداد بن الأسود بحمص، وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو، فقال له: لقد عذرك الله، فقال: أتت علينا سورة البعوث انفروا خفافا وثقالا ، وروي: سورة البحوث.
وقوله تعالى: بأموالكم وأنفسكم وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى، فحض على أكمل الأوصاف، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز، فرتب الأمر كما هو في نفسه، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي قوله: إن كنتم تعلمون تنبيه وهز للنفوس.
وقوله تعالى: لو كان عرضا قريبا الآية، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم ندب الناس، وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال، فنفر المؤمنون، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة، ويدل على ذلك قوله تعالى في أول هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة، بل هو عام، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف، وكانت أعذار المؤمنين حفيفة ولكنهم تركوا الأولى من التحامل، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم، فيقول: لو كان هذا الغزو لعرض أي: لمال وغنيمة تنال قريبا بسفر قاصد يسير، لبادروا إليه، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم، أي المسافة الطويلة.
وذكر أن أعرابيا قدم أبو عبيدة البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها، وكان معه ابن له يسمى ، فبادر الأحوص أباه بالقول فقال: "إنا من تعلمون، وابنا [ ص: 321 ] سبيل، وجئنا من شقة، ونطلب في حق، وتنطوننا ويجزيكم الله". فتهيأ أبوه ليخطب فقال له: "يا ، إياك، إني قد كفيتك". الأحوص
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
"يا": تنبيه، و"إياك": نهي، وقرأ : "الشقة" بكسر الشين، وقرأ عيسى ابن عمر : "بعدت" بكسر العين، وحكى الأعرج أنها لغة أبو حاتم بني تميم في اللفظتين.
وقوله تعالى: وسيحلفون بالله يريد المنافقين ، وهذا إخبار بغيب، وقوله: يهلكون أنفسهم يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله، ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم، وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفرا ونفاقا، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص، ولو عين، لقتل بالشرع.
وقرأ على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة: "لو استطعنا" بضم الواو، ذكره الأعمش ، ومثله بقوله تعالى: ابن جني لقد ابتغوا الفتنة ، فتمنوا الموت ، و اشتروا الضلالة وما أشبهه.