[ ص: 5 ] قوله عز وجل:
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
قرأ جمهور الناس: "أصلواتك" بالجمع، وقرأ : "أصلاتك" بالإفراد، وكذلك قرأ في التوبة: إن صلاتك ، وفي (المؤمنون): "على صلاتهم" ، كل ذلك بالإفراد. واختلف في معنى الصلاة هنا، فقالت فرقة: أرادوا الصلوات المعروفة، وروي أن ابن وثاب شعيبا عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وقال : لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. وقيل: أرادوا: قراءتك، وقيل: أرادوا: أمساجدك؟ وقيل: أرادوا: أدعواتك. الحسن
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأقرب هذه الأقوال الأول والرابع.
وجعلوا "الأمر" من فعل الصلوات على جهة التجوز، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبه إلى التزيد من ذلك النوع، فمعنى هذا: ألما كنت مصليا تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك، فقيل: أمرته، كما قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .
وقولهم: أن نترك ما يعبد آباؤنا نص في أنهم كانوا يعبدون غير الله تعالى، وقرأ جمهور الناس: "نفعل" و "نشاء" بنون الجماعة فيهما، وقرأ : "تفعل" و "تشاء" بتاء المخاطبة فيهما، ورويت عن الضحاك بن قيس أبي عبد الرحمن: "نفعل" بالنون. "ما تشاء" بالتاء، ورويت عن رضي الله عنهما، فأما من قرأ بالنون فيهما فـ "أن" الثانية عطف على "ما" لا على "أن" الأولى؛ لأن المعنى يصير: أصلواتك تأمرك [ ص: 6 ] أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ وهذا قلب ما قصدوه، وأما من قرأ بالتاء فيهما فيصح عطف "أن" الثانية على "أن" الأولى، قال بعض النحويين: ويصح عطفها على "ما" ويتم المعنى في الوجهين. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويجيء "نترك" في الأول بمعنى: نرفض، وفي الثاني بمعنى: نقرر، فيتعذر عندي هذا الوجه لما ذكرته من تنوع الترك على الحكم اللفظي، أو على حذف مضاف؛ ألا ترى أن الترك في قراءة من قرأ بالنون في الفعلين إنما هو بمعنى الرفض غير متنوع، وأما من قرأ بالنون في "نفعل" والتاء في "تشاء" فـ "أن" معطوفة على الأولى، ولا يجوز أن تنعطف على "ما" لأن المعنى أيضا ينقلب فتدبره.
وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس، قاله ، وغيره. وروي عن محمد بن كعب أنه قال: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم، وتؤول أيضا بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس. سعيد بن المسيب
واختلف في قولهم: إنك لأنت الحليم الرشيد فقيل: إنما كانت ألفاظهم: "إنك لأنت الجاهل السفيه" فكنى الله عن ذلك، وقيل: بل هذا لفظهم بعينه إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله ابن جريج، ، وقيل: المعنى: إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك، وقيل: بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه، فكأنهم فندوه أي: أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من وابن زيد بني قريظة حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا إخوة القردة" : "يا محمد ما علمناك جهولا".
[ ص: 7 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والشبه بين الأمرين إنما هو بالمناسبة بين كلام شعيب وتلطفه، وبين ما بادر به محمد عليه الصلاة والسلام بني قريظة .
وقوله تعالى: قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة الآية. هذه مراجعة لفظية واسترسال حسن واستدعاء رفيق، ولهذه الآية ونحوها من محاورة شعيب عليه السلام، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك خطيب الأنبياء". وجواب الشرط الذي في قوله: إن كنت على بينة من ربي محذوف، تقديره: أأضل كما ضللتم وأترك تبليغ الرسالة؟ ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة؟. و بينة يحتمل أن تكون بمعنى: (بيان) أو بين، ودخلت الهاء للمبالغة كعلامة، ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف، فتكون الهاء هاء تأنيث.
وقوله: ورزقني منه رزقا حسنا يريد: خالصا من الفساد الذي أدخلتم أنتم في أموالكم، ثم قال لهم: ولست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن فأستأثر بالمال لنفسي، وما أريد إلا إصلاح الجميع، وأنيب معناه: أرجع وأتوب وأستند.