قوله عز وجل:
فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين
هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام، وذلك أنه كان في دين يعقوب أن يستعبد السارق، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، فعلم يوسف أن إخوته -لثقتهم ببراءة ساحتهم- سيدعون في السرقة إلى حكمهم، فتحيل لذلك، واستسهل الأمر على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام وعليهم، لما علم في ذلك من الصلاح في الأجل، وبوحي لا محالة وإرادة من الله محنتهم بذلك. هذا تأويل قوم، ويقويه قوله تعالى: كذلك كدنا ليوسف .
وقيل: إنما أوحي إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى برأيه على ما ظهر إليه، ورجحه ، وتفتيش الأوعية يرد عليه. الطبري
وقيل: إنهم لما كانوا قد باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وأنه عوقب على ذلك بأن قالوا: فقد سرق أخ له من قبل .
[ ص: 120 ] وقوله: "جعل" أي بأمره خدمه وفتيانه، وقرأ : "وجعل" بزيادة واو. ابن مسعود
و"السقاية": الإناء الذي به يشرب الملك، وبه كان يكيل الطعام للناس، هكذا نص جمهور المفسرين: ، ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك وفي كتب من حرر أمرها أنها شكل له رأسان ويصل بينهما مقبض يمسك بالأيدي، فيكال الطعام بالرأس الواحد، ويشرب بالرأس الثاني أو بهما، فيشبه أن يكون لشراب أضياف الملك وفي أطعمته الجميلة التي يحتاج فيها إلى عظيم الأواني. وابن زيد،
وقال الصواع مثل المكوك الفارسي، وكان إناء سعيد بن جبير: يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ما هو، قال: وحدثني رضي الله عنهما أنه كان ابن عباس مثله يشرب به في الجاهلية. للعباس
وقال أيضا: الصواع: المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، كانت تشرب فيه الأعاجم، وروي أنها كانت من فضة، وهذا قول الجمهور، وروي أنها كانت من ذهب، قال ابن جبير : وقيل: كان من مسك. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد روي هذا بفتح الميم.
وقيل: كان يشبه الطاس، وقيل: من نحاس، قاله أيضا، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيلها على ذلك الإناء. وكان هذا الجعل بغير علم ابن عباس يامين. قاله ، وهو الظاهر. السدي
فلما فصلت العير بأوقارها، وخرجت من مصر فيما روي -وقالت فرقة: بل قبل الخروج من مصر - أمر بهم فحبسوا، و أذن مؤذن ، ومخاطبة العير تجوز، والمراد أربابها، وإنما المراد: أيتها القافلة أو الرفقة، وقال : كانت دوابهم حميرا، ووصفهم بالسرقة من حيث سرق -في الظاهر- أحدهم، وهذا كما تقول: "بنو فلان قتلوا فلانا" وإنما قتله أحدهم. فلما سمع إخوة مجاهد يوسف هذه المقالة أقبلوا عليهم، وساءهم أن يرموا بهذه المنقبة، وقالوا: ماذا تفقدون ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا إكمال الدعوى عسى أن يكون فيها [ ص: 121 ] ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام. وقرأ "تفقدون" بضم التاء، وضعفها أبو عبد الرحمن: . أبو حاتم
قالوا نفقد صواع الملك وهو المكيال، وهو السقاية، رسمه أولا بإحدى جهتيه وآخرا بالثانية. وقرأ جمهور الناس: "صواع" بضم الصاد وبألف، وقرأ أبو حيوة : "صواع" بكسر الصاد وبألف، وقرأ أبو هريرة، : "صاع الملك" بفتح الصاد دون واو، وقرأ ومجاهد عبد الله بن عوف: "صوع" بضم الصاد، وقرأ "صوع". أبو رجاء:
وهذه لغات في المكيال، قاله أبو الفتح وغيره، وتؤنث هذه الأسماء وتذكر، وقال : يؤنث الصاع من حيث سمي سقاية، ويذكر من حيث هو صاع، وقرأ أبو عبيد "صوغ" بالغين منقوطة، وهذا على أنه الشيء المصوغ للملك على ما روي أنه كان من ذهب أو من فضة، فهو مصدر سمي به، ورويت هذه القراءة عن يحيى بن يعمر: ، قال أبي رجاء : وقرأ أبو حاتم ، سعيد بن جبير : "صواغ" بضم الصاد وألف وغين معجمة. والحسن
وقوله: ولمن جاء به حمل بعير أي: لمن دل على سارقه وفضحه وجبر الصواع على الملك، وهذا جعل. وقوله: وأنا به زعيم حمالة، وذلك أنه لما كان الطعام لا يوجد إلا عند الملك فهم عن المؤذن أنه إنما جعل عن غيره، فلخوفه ألا يوثق بهذه الجعالة -إذ هي عن الغير- تحمل هو بذلك. قال : الزعيم هو المؤذن الذي قال: مجاهد أيتها العير ، والزعيم: الضامن في كلام العرب ، ويسمى الرئيس زعيما لأنه يتضمن حوائج الناس.
وقوله: قالوا تالله الآية. روي: أن إخوة يوسف كانوا ردوا البضاعة الموجودة في الرحال، وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن، فلذلك قالوا: لقد علمتم ، أي: لقد علمتم منا التحري، وروي أنهم كانوا قد اشتهروا في مصر بصلاح وتعفف، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زرع الناس، فلذلك قالوا: لقد علمتم [ ص: 122 ] ما جئنا لفساد وما نحن أهل سرقة. والتاء في "تالله" بدل من واو، كما أبدلت في "تراث"، وفي "التوراة" و"تخمة". ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى لا في غير ذلك، لا تقول: "تالرحمن" ولا "تالرحيم".
وقوله تعالى: قالوا فما جزاؤه الآية. قال فتيان يوسف : فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين ؟ فقال إخوة يوسف : جزاء السارق الحكم الذي تتضمنه هذه الألفاظ من وجد في رحله فهو جزاؤه ، فـ"جزاؤه" الأول مبتدأ، و"من" مبتدأ ثان، -و"من" شرط، أو بمعنى الذي. وقوله: فهو جزاؤه خبر "من"، والجملة خبر قوله: "جزاؤه" الأول، والضمير في قوله: قالوا جزاؤه للسارق. ويصح أن تكون "من" خبرا على أن المعنى: "جزاء السارق من وجد في رحله"، والضمير في "رحله" عائد على "من"، ويكون قوله: "فهو" زيادة بيان وتأكيدا، وليس هذا الموضع عندي من مواضع إبراز الضمير على ما ذهب إليه بعض المفسرين. ويحتمل أن يكون التقدير: "جزاؤه استرقاق من وجد في رحله"، ثم يؤكد بقوله: فهو جزاؤه ، وقولهم هذا قول من لم يسترب بنفسه؛ لأنهم التزموا إرقاق من وجد في رحله، وهذا أكثر من موجب شرعهم، إذ حق شرعهم أن لا يؤخذ إلا من صحت [ ص: 123 ] سرقته، وأمر يامين في السقاية كان محتملا، لكنهم التزموا أن من وجد في رحله فهو مأخوذ على أنه سارق.
وقولهم: كذلك نجزي الظالمين ، أي: هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة، أن يتملك السارق كما تملك هو الشيء المسروق.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وحكى بعض الناس أن هذا الحكم كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع، وهذا ضعيف، ما كان قط فيما علمت، وحكى عن الزهراوي أن حكمهم إنما كان أن يستخدم السارق على قدر سرقته، وهذا يضعفه رجوع الصواع، فكان ينبغي ألا يؤخذ السدي يامين إذ لم يبق فيما يخدم.