اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم
[ ص: 147 ] حكمه -بعد الأمر بإلقاء القميص على وجه أبيه- بأن أباه يأتي بصيرا ويزول عماه - دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله تبارك وتعالى، قال : وروي أن هذا القميص كان النقاش لإبراهيم كساه الله إياه حين خرج من النار، وكان من ثياب الجنة، وكان بعد لإسحاق، ثم ليعقوب ، ثم كان دفعه ليوسف فكان عنده في حفاظ من فضة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا كله يحتاج إلى سند، والظاهر أنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل أحد، وهكذا تبين الغرابة في أن وجد ريحه من بعد، ولو كان من قمص الجنة لما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد.
وأما "أهلهم" فروي أنهم كانوا ثمانين نسمة، وقيل: ستة وسبعين نفسا بين رجال ونساء، وفي هذا العدد دخلوا مصر ثم خرج منها أعقابهم مع موسى في ستمائة ألف، وذكر عن الطبري أنه لما كشف أمره لإخوته سألهم عن أبيهم: ما حاله؟ فقالوا: ذهب بصره من البكاء، فحينئذ قال لهم: السدي اذهبوا بقميصي الآية.
وقوله تعالى: ولما فصلت العير الآية، معناه: فصلت العير من مصر متوجهة إلى موضع يعقوب حسبما اختلف فيه، فقيل: كان على مقربة من بيت المقدس، وقيل: كان بالجزيرة، والأول أصح، لأن آثارهم وقبورهم حتى الآن هناك. وروي أن يعقوب وجد ريح يوسف وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام، قاله ، وقال: هاجت ريح فحملت عرفه، وروي أنه كان بينهما ثمانون فرسخا، قاله ابن عباس ، الحسن ، قال: وقد كان فارقه قبل ذلك سبعا وسبعين سنة. وابن جريج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قريب من الأول. وروي أنه كان بينهما مسيرة ثلاثين يوما، قاله وروي عن الحسن بن أبي الحسن، أبي أيوب الهوزني أن الريح استأذنت في أن توصل عرف يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك، وكانت مخاطبة يعقوب هذه لحاضريه، وروي أنهم كانوا حفدته، وقيل: كانوا بعض بنيه، وقيل: كانوا قرابته.
[ ص: 148 ] و"تفندون" معناه: تردون رأيي وتدفعون في صدري، وهذا هو التفنيد في اللغة، ومن ذلك قول الشاعر:
يا عاذلي دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمري بمردود
ويقال: "أفند الدهر فلانا" إذا أفسده، قال ابن مقبل:
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه ... إذا كلف الإفناد بالناس أفندا
ومما يعطي أن الفند: الفساد في الجملة قول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وقال يقال: شيخ مفند، أي قد فسد رأيه، ولا يقال: عجوز. منذر بن سعيد:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والتفنيد يقع إما لجهل المفند، وإما لهوى غلبه، وإما لكذبه، وإما لضعفه وعجزه لذهاب عقله وهرمه، فلهذا فسر الناس التفنيد في هذه الآية بهذه المعاني، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: قال "أو هرما مفندا"، ، ابن عباس ومجاهد : معناه: [ ص: 149 ] تسفهون، وقال وقتادة رضي الله عنهما- أيضا: تجهلون، وقال ابن عباس ، ابن جبير معناه: تكذبون، وقال وعطاء: : معناه: تضعفون، وقال ابن إسحاق ، ابن زيد : معناه: تقولون ذهب عقلك، وقال ومجاهد : معناه: تهرمون. الحسن
والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب عليه السلام إنما كان لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف عليه السلام، قال : أصل التفنيد الإفساد. الطبري
وقولهم: لفي ضلالك يريدون: انتكافك وتحيرك، وليس هو بالضلال الذي هو في العرف ضد الرشاد، لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به، وقد تأول بعض الناس على ذلك، ولهذا قال رحمه الله: قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله عليه السلام. وقال قتادة : المعنى: لفي خطئك. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة (يامين)، فلذلك يقال له: ذو الحزنين.