قوله عز وجل:
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
قال : التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. وقالت فرقة: التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون منه، ويجوز أن يكون قوله: "ومن ثمرات" عطفا على "الأنعام"، أي: ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة، ويجوز أن يكون عطفا على "مما"، أي: ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات. الطبري
[ ص: 379 ] و"السكر": ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة، فقال رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، وأراد "بالسكر" الخمر، و"بالرزق الحسن" جميع ما يشرب ويؤكل حلالا من هاتين الشجرتين، وقال بهذا القول ابن عباس ، ابن جبير وإبراهيم، ، والشعبي وأبو رزين، وقال ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر، وقال الحسن بن أبي الحسن: ، الشعبي : السكر: المايغ من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ، و الرزق الحسن: العنب والتمر، قال ومجاهد : والسكر أيضا في كلام الطبري العرب : ما يطعم، ورجح هذا القول. ولا يدخل الخمر فيه، ولا نسخ من الآية شيء، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر: إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر، وفي هذه المقالة درك; لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: الطبري هكذا روي، والرواية الصحيحة بفتح السين والكاف، أي: "حرمت الخمر بعينها، والسكر من غيرها"، ورواه العراقيون و"السكر" بضم السين وسكون الكاف، وهو مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فقليله حلال، وباقي الآية بين. جميع ما يسكر منه حرم على حد تحريم الخمر قليله وكثيره،
وقوله تعالى: وأوحى ربك إلى النحل الآية. الوحي في كلام العرب إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك، ومنه وحي الرؤيا، ومنه وحي الإلهام وهو الذي ها هنا باتفاق من المتأولين، والوحي أيضا بمعنى الأمر، كما قال تعالى:بأن ربك أوحى لها ، وقرأ : "إلى النخل" بفتح الحاء، و"أن" في قوله: أن اتخذي مفسرة. وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة: إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن [ ص: 380 ] يحيى بن وثاب آدم من الأجباح والحيطان ونحوها. "وعرش" معناه : هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من اتفاق الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صيغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومن هذا هي لفظة العرش، ويقال: عرش يعرش ويعرش بكسر الراء وضمها، قرأ بالضم، وسائرهم بالكسر، واختلف عن ابن عامر ، وجمهور الناس على الكسر، وقرأ بالضم عاصم أبو عبد الرحمن، وعبيد بن نضلة، وقال في قوله: "يعرشون" قال: الكروم، وقال ابن زيد : "ومما يعرشون" يعني: ما يبنون من السقوف. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا منهما تفسير غير متقن.
وقوله تعالى: ثم كلي من كل الثمرات الآية. المعنى: ثم ألهمها أن كلي، فعطف "كلي" على "اتخذي"، و"من" للتبعيض، أي: كلي جزءا أو شيئا من كل الثمرات، وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار. و "السبل": الطرق، وهي مسالكها في الطيران وغيره، وأضافها إلى الرب من حيث هي ملكه وخلقه، أي: التي يسر لك ربك. وقوله: "ذللا" يحتمل أن يكون حالا من "النحل"، أي: مطيعة منقادة لما يسرت له، قاله ، وقال قتادة : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون، وهي تتبعهم، وقرأ: ابن زيد أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا إلى قوله: يأكلون ، ويحتمل أن يكون حالا من "السبل"، أي: مسهلة مستقيمة، قال : لا يتوعر عليها سبيل تسلكه. مجاهد
ثم ذكر تبارك وتعالى -على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة- أمر العسل في قوله: يخرج من بطونها ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: "أشرف لباس ابن [ ص: 381 ] علي بن أبي طالب آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة". فظاهر هذا أنه من غير الفم، واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي، وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي، ومن هذا المعنى قول للنبي صلى الله عليه وسلم: "جرست نحله العرفط"، حين شبهت رائحته برائحة المغافير. زينب
وقوله: فيه شفاء للناس ، الضمير للعسل، قاله الجمهور، ولا يقتضي العموم في كل علة، وفي كل إنسان، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض، وعلى حال دون حال، ففي الآية إخبار منبه على أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية والأشربة والمعاجن، وقد روي عن رضي الله عنه أنه كان لا يشكو شيئا إلا تداوى بالعسل، حتى إنه كان يدهن به الدمل والقرصة ويقرأ: ابن عمر فيه شفاء للناس .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم، وقال : الضمير للقرآن، أي: فيه شفاء، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها أهل البيت من مجاهد بني هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطون المنصور أبي جعفر العباسي، بني هاشم، فأضحك الحاضرين وأبهت الآخر، وظهرت سخافة قوله، وباقي الآية بين.