قوله عز وجل:
فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون
هذه الآية فيها موادعة نسختها آية السيف، والمعنى: إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، وإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه، ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة، ويقولون إنها من عنده ثم يكفرون به تعالى، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها. هذا قول ، فسماهم منكرين للنعمة تجوزا; إذ كانت لهم أفعال المنكرين من الكفر برب النعم، ولشركهم في النعم الأوثان على وجه ما، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من النفع والضر، وقال مجاهد : النعمة هنا: السدي محمد عليه الصلاة والسلام. ووصفهم تبارك وتعالى بأنهم يعرفون [ ص: 396 ] معجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه ، ثم حكم على أكثرهم بالكفر وهم أهل الطبري مكة ; لأنه كان فيهم من قد داخله الإسلام ومن أسلم بعد ذلك.
وقوله تعالى: ويوم نبعث من كل أمة شهيدا آية وعيد، التقدير: واذكر يوم نبعث ويرد شهيدا على كفرهم وإيمانهم، فـ "شهيد" بمعنى "شاهد"، وذكر أن المعنى: ثم ينكرونها اليوم، ويوم نبعث، أي: ينكرون كفرهم فيكذبهم الشهيد. وقوله: الطبري ثم لا يؤذن أي لا يؤذن للذين كفروا أي في المعذرة، وهذا في موطن دون موطن; لأن في القرآن أن كل نفس تأتي تجادل عن نفسها ويترتب أن تجيء كل نفس تجادل، فإذا استقرت أقوالهم بعث الله الشهود من الأمم فتكذب الكفار فلا يؤذن للكاذبين بعد في معذرة، ولا هم يستعتبون بمعنى: يعتبون، تقول: "عتبت الرجل" إذا كفيته ما عتب فيه، كما تقول: "أشكيته ما شكا"، كأنه قال: ولا هم يكفون ما يعتبون فيه ويشق عليهم، والعرب تقول: استفعل بمعنى أفعل، تقول: أدنيت الرجل واستدنيته، وقال قوم: لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا استعتاب معناه طلب عتباه، وقال : معناه: يطلبون الرجوع إلى الدنيا فلا يعطون فيقع منهم توبة عمل. الطبري
وقوله تعالى: وإذا رأى الذين ظلموا العذاب ، أخبر الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفرة الظالمين في كفرهم إذا أراهم الله عذاب النار وشارفوها وتحققوا كنه شدتها، فإن ذلك الأمر الهائل الذي نزل بهم لا يخفف بوجه ولا يؤخر عنهم، وإنما مقصد الآية الفرق بين ما يحل بهم وبين رزايا الدنيا، فإن الإنسان لا يتوقع أمرا من [ ص: 397 ] خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه، وأن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه، وكذلك متى حل به كان طامعا في أن يخف، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيرا، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة -إذا عاينه الكافر- لا طماعية فيه بتخفيف ولا تأخير.