واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا
سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل: من أهل مكة ، وقيل عيينة بن حصن وأصحابه، والأول أصوب لأن السورة مكية، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، يريدون: عمار بن ياسر، وصهيب بن سنان، وسلمان الفارسي، وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه، وقالوا: إن ريح جبابهم تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم، وجلس بينهم وقال: وعبد الله بن مسعود، [ ص: 597 ] وروي أنه قال لهم: "الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه"، "مرحبا بالذين عاتبني فيهم ربي"، وروى أن المؤلفة قلوبهم، سلمان عيينة بن حصن، والأقرع، وذويهم قالوا ما ذكر فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فالآية -على هذا- مدنية، ويشبه أن تكون الآية مكية، وفعل المؤلفة فعل قريش فرد عليهم بالآية.
و"اصبر" معناه: احبس، ومنه المصبورة التي جاء فيها الحديث أي: حبسه للرمي ونحوه. "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الحيوان"،
وقرأ الجمهور "بالغداة"، وقرأ رضي الله عنهما "بالغدوة"، وهي قراءة ابن عباس نصر بن عاصم ، ومالك بن دينار، وأبي عبد الرحمن ، ، وهي في الخط على القراءتين بالواو، فمن يقرأها "بالغداة" فيكتبها كما تكتب "الصلاة والزكوة"، وفي قراءة من قرأ: "بالغدوة" ضعف; لأن "غدوة" اسم معرف فحقه ألا تدخل عليه الألف واللام، ووجه القراءة بذلك أنهم ألحقوها ضربا من التنكير; إذ قالوا: "جئت غدوة"، يريدون: من الغدوات، فحسن دخول الألف واللام، كقولهم: الفينة، وفينة اسم معرف. [ ص: 598 ] والإشارة لقوله تعالى: والحسن يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى الصلوات الخمس، قاله ابن عمر، ، ومجاهد وإبراهيم. وقال : المراد صلاة الفجر وصلاة العصر. قتادة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة، ومن يجتمع لمذاكرة علم. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عبد الله بن عمر، "لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله، ومن إعطاء المال سحا".
وقرأ "بالغدو" دون هاء، وقرأ أبو عبد الرحمن: : "بالغدوات والعشيات" على الجمع. ابن أبي عبلة
وقوله تعالى: ولا تعد عيناك عنهم ، أي: لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا والملابس من الكفار. وقرأ : "ولا تعد" بضم التاء وفتح العين وشد الدال المكسورة، أي: لا تجاوزها أنت عنهم، وروي عنه: "ولا تعد" بضم التاء وسكون العين، وقوله: الحسن من أغفلنا ، قيل: إنه أراد بذلك معينا وهو عيينة بن حصن، والأقرع، قاله وقيل: إنما أراد من هذه صفته، وإنما المراد أولا كفار خباب، قريش لأن الآية مكية. وقرأ الجمهور: "أغفلنا قلبه" بنصب الباء، على معنى: جعلناه غافلا، وقرأ عمرو بن فائد، وموسى الأسواري: "أغفلنا قلبه"، على معنى: أهمل ذكرنا وتركه، قال المعنى: من ظننا غافلين عنه، وذكر ابن جني إنها قراءة أبو عمرو الداني: عمرو بن عبيد.
و "الفرط" يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلتزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، أي أمره وهواه الذي هو بسبيله، وقد فسر المتأولون بالعبارتين، أعني التضييع والإسراف، وعبر عنه بالهلاك، خباب وداود بالندامة، بالخلاف للحق، وهذا كله تفسير بالمعنى. وابن زيد
[ ص: 599 ] وقوله تعالى: وقل الحق من ربكم الآية. المعنى: وقل لهم يا محمد: هذا الحق من ربكم، أي: هذا القرآن، أو هذا الإعراض عنكم، وترك الطاعة لكم، وصبر النفس مع المؤمنين. وقرأ قعنب وأبو السمال : "وقل" بفتح اللام، قال : وذلك رديء في العربية. وقوله: أبو حاتم فمن شاء فليؤمن الآية، توعد وتهديد، أي: فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله عز وجل. وتأولت فرقة: فمن شاء الله إيمانه فليؤمن ومن شاء الله كفره فليكفر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا متوجه، أي: فحقه الإيمان وحقه الكفر، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر إلزاما وتحريضا من حيث للإنسان - في ذلك - التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر. وقرأ ، الحسن "فليؤمن .. وليكفر" بكسر اللامين. وعيسى الثقفي:
و"أعتدنا" مأخوذ من العتاد، وهو الشيء المعد الحاضر.
و "السرادق" هو الجدار المحيط كالحجارة التي تدور وتحيط الفسطاط، وقد تكون من نوع الفسطاط أديما أو ثوبا أو نحوه، ومنه قول رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود
[ ص: 600 ] ومنه قول سلامة بن جندل:
هو المولج النعمان بيتا سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال : "السرادق": كل ما أحاط بالشيء. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا عندي أخص مما قال . الزجاج
واختلف في سرادق النار - فقال رضي الله عنهما: سرادقها حائط من نار، وقالت فرقة: سرادقها دخان يحيط بالكفار، وقوله تعالى: ابن عباس انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب . وقالت فرقة: الإحاطة هي في الدنيا، والسرادق: البحر، وروي هذا المعنى من طريق يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجيء قوله تعالى: أحاط بهم ، أي: بالبشر، ذكر الحديث عن يعلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطبري وتلا هذه الآية، ثم قال: "البحر هو جهنم"، وروي عنه أيضا عليه الصلاة والسلام من طريق "والله لا أدخله أبدا، أو ما دمت حيا"، أنه قال: أبي سعيد الخدري "لسرادق النار أربعة جدر كثف، عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة".
وقوله تعالى: "يغاثوا" أي يكون لهم مقام الغوث، وهذا نحو قول الشاعر:
[ ص: 601 ]
تحية بينهم ضرب وجيع
أي: القائم مقام التحية.
و "المهل"، قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو دردي الزيت إذا انتهى حره، وقالت فرقة: هو كل مائع سخن حتى انتهى حره، وقال أبو سعيد وغيره: كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى تميع، وروي أن ابن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألوانا، ثم دعا من ببابه من أهل عبد الله بن مسعود الكوفة فقال: ما رأيت في الدنيا شيئا أدنى شبها بالمهل من هذا، يريد: أدنى شبها بشراب أهل النار. وقالت فرقة: "المهل": الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول رضي الله تعالى عنه في الكفن: "إنما هو للمهلة"، يريد: لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله تعالى: أبي بكر الصديق من ماء صديد الآية.
وقوله تعالى: يشوي الوجوه روي في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تقرب الشربة من الكافر، فإذا دنت منه تكرهها، فإذا دنت أكثر شوت وجهه وسقطت فيها فروة وجهه، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه". و "المرتفق": الشيء الذي يرتفق به، [ ص: 602 ] أي يطلب رفقه، و "المرتفق" الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية; لأنه في شيء واحد من معنى الرفق، على أن قد فسر الآية به، والأظهر عندي أن يكون "المرتفق" بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره. وقال الطبري : "المرتفق": المجتمع. مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة، ومنه الرفقة، وهذا كله راجع إلى الرفق، وأنكر أن يعرف لقول الطبري معنى، والقول بين الوجه، والله المعين. مجاهد