واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا
قوله تعالى: الحياة الدنيا يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وثروة، وقوله: [ ص: 613 ] كماء أنزلناه يريد: هي كماء، وقوله: فاختلط به أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، فالباء في "به" باء السبب; فـ "أصبح" عبارة عن صيرورته إلى ذلك، لا أنه أراد اختصاصا بوقت الصباح، وهذا كقول الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
و "الهشيم": المتفتت من يابس العشب، ومنه قوله تعالى: كهشيم المحتظر ، ومنه: هشم الثريد، و"تذروه" بمعنى: تفرقه، وقرأ رضي الله عنهما: "تذريه"، والمعنى: تقلعه وترمي به. وقرأ ابن عباس : "تذروه الريح" بالإفراد، وهي قراءة الحسن طلحة، والنخعي، . والأعمش
وقوله: وكان الله عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان إذ كان، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال غفلة، هذا قول ، وهو معنى صحيح. وقال سيبويه : "كان" إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات، أي إن القدرة كانت، وهذا أيضا حسن. وقوله: الحسن كل شيء يريد: من الأشياء المقدرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لا المحالات وغيرها من الأشياء التي لا يوصف الله تبارك وتعالى بالقدرة عليها، ولا بالعجز عنها، وهذا على تسمية المحال شيئا، من حيث هو معقول لا واقع ، وقد جاء أن زلزلة الساعة شيء.
[ ص: 614 ] فمعنى هذا المثال تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي له خضرة ونضرة عن المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك هشيما، ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل صالح يبقى في الآخرة فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء، والخضرة، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ونحوه.
وقوله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا لفظه لفظ الخبر، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين; لأنه في المثل قبل حقر أمر الدنيا وبينه، فكأنه يقول في هذه: إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة، فلا تتبعوها أنفسكم. وقوله: "زينة" مصدر، وقد أخبر به عن أشخاص، فإما أن يكون على تقدير محذوف، تقديره: مقر زينة الحياة، وإما أن يضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة.
واختلف الناس في "الباقيات الصالحات" -فقال ، ابن عباس ، وابن جبير وأبو ميسرة، عمرو بن شرحبيل: هي الصلوات الخمس.
وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وروي في هذا حديث: وقاله "أكثروا من الباقيات الصالحات"، أيضا، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات. أبي هريرة
وقال - رضي الله عنهما- أيضا: الباقيات الصالحات: كل عمل صالح من [ ص: 615 ] قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجحه ابن عباس ، وقال الطبري رضي الله عنهما لكل الأقوام دليل على قوله بالعموم. ابن عباس
وقوله تعالى: خير عند ربك ثوابا وخير أملا ، أي: صاحبها ينتظر الثواب وينبسط أمله على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح.
وقوله تعالى: ويوم نسير الجبال الآية. التقدير: واذكر يوم، وهذا أفصح ما يتأول في هذا هنا. وقرأ ، نافع ، والأعرج وشيبة ، ، وابن مصرف، وعاصم : "نسير" بنون العظمة. وقرأ وأبو عبد الرحمن ، ابن كثير وأبو عمرو، ، والحسن وشبل، ، وقتادة "تسير" بالتاء، وفتح الياء المشددة "الجبال" بالرفع، وقرأ وعيسى: : "يسير" بياء مضمومة والثانية مفتوحة مشددة "الجبال" رفعا. وقرأ الحسن ابن محيصن : "تسير" بتاء مفتوحة وسين مكسورة، أسند الفعل إلى "الجبال"، وقرأ : "ويوم سيرت الجبال". أبي بن كعب
وقوله تعالى: "بارزة"، إما أن يريد أن الأرض لذهاب الجبال والظراب والشجر، برزت وانكشفت، وإما أن يريد بروز أهلها، والمحشورين من سكان بطنها. "وحشرناهم" أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرضة القيامة. وقرأ الجمهور: "نغادر" بنون العظمة، وقرأ : "تغادر" على الإسناد إلى القدرة أو إلى الأرض. وروى قتادة أبان بن زيد عن : "يغادر" بياء مضمومة وفتح الدال "أحد" بالرفع. عاصم
وقرأ "فلم نغدر" بنون مضمومة وكسر الدال وسكون الغين. الضحاك:
والمغادرة: الترك، ومنه: غدير الماء، وهو ما تركه السيل.
وقوله تعالى: "صفا" إفراد نزل منزلة الجمع، أي: صفوفا، وفي الحديث الصحيح: الحديث. وفي حديث آخر: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفدهم البصر" وقوله تعالى: "أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون [ ص: 616 ] صفا، أنتم منها ثمانون صفا". لقد جئتمونا إلى آخر الآية، مقاولة للكفار المنكرين للبعث، ومضمنها التقريع والتوبيخ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة، لا تكون هذه المخاطبة لهم بوجه، وفي الكلام حذف يقتضيه القول ويحسنه الإيجاز، تقديره: يقال للكفرة منهم. كما خلقناكم أول مرة يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا"، كما بدأنا أول خلق نعيده .