ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
الضمير في "أشهدتهم" عائد على الكفار، وعلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل متخرص في هذه الأشياء. وحدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاذ المهدوي بالمهدية يقول: سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا [ ص: 621 ] التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذكر هذا بعض الأصوليين. وقيل: الضمير في "أشهدتهم" عائد على ذرية إبليس، فهذه الآية -على هذا- تتضمن تحقيرهم. والقول الأول أعظم فائدة، وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم والمعظمين للجن حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته، وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول بالمضلين، وتندرج هذه الطوائف في معناهم.
وقرأ الجمهور: "أشهدتهم"، وقرأ أبو جعفر وعوف العقيلي، "أشهدناهم"، وقرأ الجمهور: "وما كنت" وقرأ وأيوب السختياني: أبو جعفر والجحدري ، بخلاف-: "وما كنت"، والصفة بـ "المضلين" تترتب في الطوائف المذكورة، وفي ذرية إبليس لعنه الله. و "العضد" استعارة للمعين والمؤازر، وهو تشبيه بعضد الإنسان الذي يستعين به. وقرأ الجمهور: "عضدا" بفتح العين وضم الضاد، وقرأ والحسن أبو عمرو، بضمهما، وقرأ والحسن بكسر العين وفتح الضاد، وقرأ الضحاك : "عضدا" بضم العين وسكون الضاد، وقرأ عكرمة "عضدا" بفتح العين والضاد، وفيه لغات غير هذا لم يقرأ بها. عيسى بن عمر:
قوله تعالى: ويوم يقول ، الآية وعيد، والمعنى: واذكر يوم، وقرأ طلحة، ويحيى، ، والأعمش : "نقول" بنون العظمة، وقرأ الجمهور بالياء، أي: "يقول" الله تعالى للكفار الذين أشركوا به من الدنيا سواه: وحمزة نادوا شركائي على وجه الاستغاثة بهم، وقوله: "شركائي"، أي: على دعواكم أيها المشركون، وقد بين هذا بقوله: الذين زعمتم . وقرأ وأهل ابن كثير مكة : "شركائي" بياء مفتوحة، وقرأ الجمهور: "شركائي" بهمزة، فمنهم من حققها، ومنهم من خففها، و "الزعم" إنما هو مستعمل أبدا في غير اليقين، بل أغلبه في الكذب، ومنه هذه الآية، وأرفع مواضعه أن تستعمل "زعم" بمعنى "أخبر" حيث تلقي عهدة الخبر على المخبر، كما يقول [ ص: 622 ] رحمه الله: "زعم الخليل"، وقوله تعالى: سيبويه فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ظاهره أن ذلك يقع حقيقة، ويحتمل أن يكون استعارة، كأن فكرة الكفار ونظرهم في أن تلك الجمادات لا تغني شيئا ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة، والأول أبين.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: "موبقا" قال عبد الله بن عمرو، ، وأنس بن مالك : هو واد في جهنم يجري بدم وصديد، قال ومجاهد رضي الله عنه: يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين، فقوله -على هذا-: "بينهم" ظرف. وقال أنس "موبقا": عداوة، و"بينهم" -على هذا- ظرف. وبعض هذه الفرقة يرى أن الضمير في قوله تعالى: "بينهم" يعود على المؤمنين والكافرين، ويحتمل أن يعود على المشركين ومعبوداتهم في الدنيا، وأما التأويل الأول فالضمير فيه عائد على المشركين ومعبوداتهم. وقال الحسن: رضي الله عنهما "موبقا" معناه: مهلكا، بمنزلة: موضع، وهو من قولك: وبق الرجل وأوبقه غيره إذا أهلكه، فقوله تعالى: "بينهم" -على هذا التأويل- يصح أن يكون ظرفا، والأظهر فيه أن يكون اسما بمعنى: وجعلنا تواصهم أمرا مهلكا لهم، ويكون "بينهم" مفعولا أولا لـ "جعلنا". وعبر بعضهم عن "الموبق" بالوعيد، وهذا ضعيف. ابن عباس
ثم أخبر عز وجل عن رؤية المجرمين النار، ومعاينتهم لها، ووقوع العلم لهم بأنهم مباشروها، وأطلق الناس أن "الظن" هنا بمعنى اليقين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولو قال تعالى بدل "ظنوا": "أيقنوا" لكان الكلام متسقا على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبدا في موضع يقين تام قد ناله الحس، بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق لكنه لم يقع ذلك المظنون، وإلا فما يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن، وتأمل هذه الآية، وتأمل قول دريد:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج.
[ ص: 623 ] وقرأ : "فظنوا أنهم ملاقوها"، وكذلك في مصحف الأعمش ، وحكى ابن مسعود عن أبو عمرو الداني أنه قرأ: "ملافوها" بالفاء مشددة، من لففت. وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة". و "المصرف": المعدل، ومنه قول علقمة أبي كبير الهذلي:
أزهير هل عن شيبة من مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلف
وهو مأخوذ من الانصراف من شيء إلى شيء.
وقوله تعالى: ولقد صرفنا الآية. المعنى: ولقد خوفنا ورجينا وبالغنا في البيان، وهذا كله بتمثيل وتقريب للأذهان. وقوله: من كل مثل ، أي: من كل مثل له نفع في الغرض المقصود بهم وهو الهداية. وقوله تعالى: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا خبر مقتضب في ضمنه: فلم ينفع فيهم تصريف الأمثال، بل هم قوم منحرفون يجادلون بالباطل. وقوله تعالى: "الإنسان" يريد به الجنس، وروي أن سبب هذه الآية هو النضر بن الحارث، وقيل: ابن الزبعري، وروي رضي الله عنه وقد نام عن صلاة الليل فأيقظه وعاتبه، فقال له علي بن أبي طالب إنما نفسي بيد الله، ونحو هذا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب خده بيده ويقول: علي: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا . فقد استعمل الآية على العموم في جميع الناس، و "الجدل": [ ص: 624 ] الخصام والمدافعة بالقول، فالإنسان أكثر جدلا من كل ما يجادل من ملائكة وجن وغير ذلك إن فرض. وفي قوله تعالى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على وكان الإنسان أكثر شيء جدلا تعليم تفجع ما على الناس، ويتبين فيما بعد.