تفسير سورة مريم
هذه السورة مكية بإجماع، إلا السجدة منها، فقالت فرقة: هي مكية، وقالت فرقة: هي مدنية.
قوله عز وجل:
كهيعص ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا
اختلف الناس في على قولين: فقالت فرقة: هي سر الله تبارك وتعالى في القرآن، لا ينبغي أن يعرض له، يؤمن بظاهره ويترك باطنه. وقال الجمهور: بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب معانيها; فإن الحروف التي في أوائل السور العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالا على كلمة، وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة، ونذكر الآن ما يختص بهذه السورة.
قال ، ابن عباس ، وابن جبير : هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله عز وجل، الكاف من "كبير"، وقال والضحاك أيضا: الكاف من "كاف"، وقال أيضا: هي من "كريم". ابن جبير
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فمقتضى أقواله أنها دالة على كل اسم فيه كاف من أسمائه تعالى. قالوا: والهاء من "هاد"، والياء من "علي"، وقيل: من "حكيم"، وقال : هي [ ص: 6 ] من "يأمن لا يجير ولا يجار عليه". قال الربيع بن أنس رضي الله عنهما: والعين من "عزيز"، وقيل: من "عليم"، وقيل: من "عدل"، والصاد من "صادق". وقال ابن عباس : بل "كهيعص" بجملته اسم للسورة، وقالت فرقة: بل هي اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، وروي عن قتادة رضي الله عنه أنه كان يقول: "يا كهيعص اغفر لي". علي بن أبي طالب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فهذا يحتمل أن تكون الجملة من أسماء الله تعالى، ويحتمل أن يريد رضي الله عنه أن ينادي الله تعالى بجميع الأسماء التي تضمنها "كهيعص"، كأنه أراد أن يقول: يا كريم يا هادي يا علي يا عزيز يا صادق اغفر لي، فجمع هذا كله باختصار في قوله: "يا كهيعص". وقال علي بن أبي طالب ابن المستنير وغيره: "كهيعص" عبارة عن حروف المعجم، ونسبه إلى أكثر أهل اللغة، أي: هذه الحروف منها ذكر رحمت ربك عبده الزجاج زكريا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وعلى هذا يتركب قول من يقول: ارتفع "ذكر" بأنه خبر عن "كهيعص"، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون.
وقرأ الجميع: "كاف" بإثبات الألف والفاء، وقرأ "الهاء والياء" وبين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال في الذال، وقرأ نافع ، ابن كثير أيضا بفتح الهاء والياء، وقرأ ونافع بضم الهاء وفتح الياء، وقد روي عنه ضم الياء، وروي عنه أنه قرأ: "كاف" بضم الفاء، قال الحسن بن أبي الحسن : معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم، وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب. وقرأ أبو عمرو الداني بكسر الهاء وفتح الياء، وقرأ أبو عمرو بكسرها، وقرأت فرقة بإظهار النون من "عيين"، وهي قراءة عاصم حفص عن ، وهو القياس; إذ هي حروف منفصلة، وقرأ الجميع: "عيين" بإخفاء النون، جعلوها في حكم الاتصال، وقرأ الأكثر بإظهار الدال من "صاد"، وقرأ عاصم بإدغامه في الذال من قوله: "ذكر"، وقرأ أبو عمرو بإظهار هذه الحروف كلها وتخليص بعضها من بعض. أبو جعفر بن القعقاع
[ ص: 7 ] وارتفع قوله: "ذكر" -فيما قالت فرقة- بقوله: "كهيعص"، وقد تقدم وجه ذلك. وقالت فرقة: ارتفع على خبر مبتدإ تقديره: هذا ذكر. وقالت فرقة: ارتفع بالابتداء والخبر مقدر، تقديره: "فيما أوحي إليك ذكر". وقرأ ، الحسن بن أبي الحسن : "ذكر رحمة ربك"، بفتح الذال والكاف "المشددة" والراء، على معنى: هذا المتلو ذكر رحمة ربك عبده، ومن قال:"في الكلام تقديم وتأخير" فقد تعسف. وقرأ الجمهور : وابن يعمر "زكرياء" بالمد، وقرأ ، الأعمش ، ويحيى : وطلحة "زكريا" بالقصر، وهما لغتان، وفيه لغات غيرهما.
وقوله تعالى: "نادى" معناه: بالدعاء والرغبة. واختلف في معنى "إخفائه" هذا النداء، فقال : ذلك لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ابن جريج ، وقال غيره: خير الذكر الخفي الذي هو في معنى العفو والمغفرة، لأنه يدل من الإنسان على أنه خير، فإخفاؤه أبعد من الرياء، وأما دعاء يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الدعاء زكريا وطلبه فكان في أمر دنيا وهو طلب الولد فإنما إخفاؤه لئلا يلومه الناس في ذلك، وليكون على أول أمره، إن أجيب نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك. ويقال: وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل.
و "وهن" معناه: ضعف، والوهن في الشخص أو الأمر: الضعف. وقرأ : "وهن" بكسر الهاء. "واشتعل" مستعارة للشيب من اشتعال النار، على التشبيه به، و "شيبا" نصب على المصدر في قول من رأى "اشتعل" في معنى شاب، وعلى التمييز في قول من لا يرى ذلك، بل رآه فعلا آخر، فالأمر عنده كقولهم: وامتلأت غيظا. الأعمش
قوله: ولم أكن بدعائك رب شقيا شكر لله تعالى على سالف أياديه عنده، معناه: قد أحسنت إلي فيما سلف، وسعدت بدعائي إياك، فالإنعام يقتضي أن يشفع آخره أوله.
وقوله تعالى: وإني خفت الموالي الآية، اختلف الناس في المعنى [ ص: 8 ] الذي من أجله خاف الموالي، فقال ، ابن عامر ، ومجاهد ، وقتادة وأبو صالح : خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة، فأشفق من ذلك، وروى ، قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والحسن يرحم الله أخي زكريا ، ما كان عليه ممن يرث ماله ، وقالت فرقة: إنما كان مواليه مهملين للدين، فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده، حكى هذا القول ، وفيه أنه لا يجوز أن يسأل الزجاج زكريا من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا يؤيد قول النبي صلى الله عليه وسلم: ، ويوهنه ذكر العاقر، والأكثر من المفسرين على أنه أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم، فتأمله. والأظهر الأليق إنا معشر الأنبياء لا نورث بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة، ألا ترى أنه إنما طلب وليا، ولم يخصص ولدا فبلغه الله أمله على أكمل الوجوه؟ وقال أبو صالح وغيره: قوله: "يرثني" يريد المال، وقوله: ويرث من آل يعقوب يريد العلم والنبوة، وقال : رغب السدي زكريا في الولد.
و "خفت" من الخوف، هي قراءة الجمهور، وعليها هو هذا التفسير، وقرأ رضي الله عنه، عثمان بن عفان ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس وسعيد بن العاصي ، ، وابن يعمر ، وابن جبير ، وغيرهم: "خفت" بفتح الخاء وفتح الفاء وشدها وكسر التاء، وعلى إسناد الفعل إلى "الموالي"، والمعنى -على هذا-: انقطع أوليائي وماتوا، وعلى هذه القراءة فإنما طلب وليا يقول بالدين. و "الموالي": بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب. وقوله: وعلي بن الحسين من ورائي أي: من بعدي في الزمن، فهم [ ص: 9 ] الوراء على ما بيناه في سورة الكهف، وقال في هذه الآية: أي من بين يدي ومن أمامي، وهذا قلة تحرير. وقرأ أبو عبيدة : "من ورائي" بالمد والهمز وفتح الياء، وقرأ أيضا ابن كثير : "من وراي" بالياء المفتوحة مثل "عصاي"، والباقون همزوا ومدوا وسكنوا الياء. ابن كثير
و "العاقر" من النساء التي لا تلد من غير كبر، وكذلك العاقر من الرجال، ومنه قول عامر بن الطفيل :
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
و "زكريا" عليه السلام لما رأى من حاله إنما طلب وليا، ولم يصرح "بالولد" لبعد ذلك عنده بسبب المرأة، ثم وصف الولي بالصفة التي هي قصده، وهو أن يكون وارثا، وقالت فرقة: بل طلب الولد، ثم شرط أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد لكن يخترم فلا يتحصل منه الغرض المقصود.وقرأ الجمهور : "يرثني ويرث" برفع الفعلين على معنى الصفة للولي، وقرأ ، أبو عمرو : "يرثني ويرث" بجزم الفعلين، وهذا على مذهب والكسائي ليس هو جواب "هب"، إنما تقديره: إن تهبه يرثني، والأول أصوب في المعنى; لأنه طلب وارثا موصوفا، ويضعف الجزم أنه ليس كل موهوب يرث. وقرأ سيبويه ، [ ص: 10 ] علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وغيرهما: "يرثني وارث من آل يعقوب"، قال وابن عباس أبو الفتح : وهذا معناه التجريد، التقدير: يرثني منه أو به وارث، وقرأ : "يرثني ويرث" على التصغير، وقوله تعالى: مجاهد من آل يعقوب يريد منهم الحكمة والعلم والنبوة، والميراث في هذا كله استعارة. و "رضي" معناه: مرضي، فهو فعيل بمعنى مفعول.