قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا
قال لها الملك: كذلك هو كما وصفت، ولكن قال ربك، ويحتمل أن يريد: على هذه الحال قال ربك، والمعنى متقارب، و "الآية": العبرة المعرضة للنظر، والضمير في قوله: "لنجعله" للغلام، ورحمة منا ، أي: طريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك. ثم أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز، و "الأمر" هنا واحد الأمور، وليس بمصدر: أمر يأمر، وروي أن جبريل عليه السلام -حين قاولها هذه المقاولة- نفخ في جيب درعها، فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منها، قاله وغيره. وقال وهب بن منبه : نفخ في جيب درعها وكفها، وقال ابن جريج رضي الله عنه: دخل الروح المنفوخ من فمها، فذلك قوله: أبي بن كعب فحملته أي: حملت الغلام.
ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر انتبذت به، أي: تنحت مكانا بعيدا حياء وفرارا على وجهها، وروي في هذا أنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها، قاله ، وروي أيضا أنها خرجت إلى موضع يعرف وهب بن منبه ببيت لحم ، بينه وبين إيلياء أربعة أميال.
و "أجاءها" معناه: فاضطرها، و "أجاء" هو تعدية "جاء" بالهمزة، وقرأ شبل بن عزرة -ورويت عن -: "فاجأها"، من المفاجأة، وفي مصحف عاصم : "فلما أجاءها المخاض"، وقال أبي بن كعب زهير :
[ ص: 19 ]
وجار سار معتمدا إليكم أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور : "المخاض" بفتح الميم، وقرأ فيما روي عنه - بكسرها، وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها، روي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة بال يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء، فاشتد بها الأمر هنالك، واحتضنت الجذع لشدة الوجع، وولدت ابن كثير عيسى عليه السلام ، فقالت عند ولادتها - لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه-: يا ليتني مت ولم يجر علي هذا القدر.وقرأ الحسن، ، وأبو جعفر وشيبة ، ، وعاصم ، وجماعة: "مت" بضم الميم، وقرأ وأبو عمرو ، الأعرج ، وطلحة ، ويحيى بكسرها، واختلف عن والأعمش . وتمنت نافع مريم الموت من جهة الدين; إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها، وتعير فيفتنها ذلك، وعلى هذا الحد تمناه رضي الله عنه وجماعة من الصالحين، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن، وقد أباحه صلى الله عليه وسلم في قوله: عمر بن الخطاب
[ ص: 20 ] . يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
لأنه زمن فتن بالدين.
وقالت: وكنت نسيا منسيا ، أي: شيئا متروكا محتقرا، والنسي في كلام العرب : الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه، يقال: نسي ونسي بفتح النون وكسرها، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ وحده بالفتح، واختلف عن حمزة ، وكقراءة عاصم قرأ حمزة ، طلحة ، والأعمش ، وقرأ ويحيى : "نسئا" بالهمز وكسر النون، وقرأ محمد بن كعب القرظي نوف البكالي : "نسئا" بفتح النون، وحكاها أبو الفتح، عن وأبو عمرو الداني ، وقرأ محمد بن كعب القرظي بكر بن حبيب : "نسا" بشد السين وفتح النون دون همز، وقال الشنفرى :
كأن لها في الأرض نسا تقصه إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت
[ ص: 21 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وفي هذا كله ضعف، فتأمله. وكذلك ذكر من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له الطبري يوسف النجار كان يخدم معها المسجد، وطول في ذلك فاختصرته لضعفه، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر، واستحيت من ذلك وفرت بسببه وهي حامل، وهو قول جمهور المتأولين، وروي عن الطبري رضي الله عنهما أنه قال: ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة ، والله أعلم. عبد الله بن عباس
وظاهر قوله تعالى: فأجاءها المخاض يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر; ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصية عيسى عليه السلام ، وقيل: ولدته لسبعة أشهر، وقيل: لستة أشهر.