حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا
"حتى" في هذه الآية حرف ابتداء دخلت على جملة، وفيها معنى الغاية، و"إذا" [ ص: 63 ] شرط، وجوابها في قوله تعالى: فسيعلمون ، و "الرؤية" رؤية العين، و"العذاب" و "الساعة" بدل من "ما" التي وقعت عليها "رأوا". و "إما" هي المدخلة للشك في أول الكلام، والثانية عطف عليها. و "العذاب" يريد به عذاب الدنيا ونصرة المؤمنين عليهم، و "الجند" النصرة والقائمون بأمر الحرب، و "شر مكانا" بإزاء قولهم: "خير مقاما"، و "أضعف جندا" بإزاء قولهم: "أحسن نديا"
ولما ذكر ضلالة الكفر، وارتباكهم في الامتحان بنعم الدنيا وعماهم عن الطريق المستقيم، عقب ذلك بذكر نعمته على المؤمنين، في أنه يزيدهم هدى في الارتباط إلى الأعمال الصالحة، والمعرفة بالدلائل الواضحة، وزيادة العلم دأبا، قال عن بعضهم: المعنى: بناسخ القرآن ومنسوخه. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا مثال.
و " الباقيات الصالحات " إشارة إلى ذلك الهدى الذي يزيدهم الله، وهذه النعم على هؤلاء خير عند الله ثوابا وخير مرجعا.
والقول في زيادة الهدى سهل بين الوجوه.
و " الباقيات الصالحات " كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله، وقال : هي الفرائض، وقال الحسن رضي الله عنهما: هي الصلوات الخمس، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها الكلمات المشهورات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فقد قال صلى الله عليه وسلم ابن عباس لأبي الدرداء رضي الله عنه: ، وروي [ ص: 64 ] عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما: خذهن قبل أن يحال بينك وبينهن، فهن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة ، وكان "خذوا جنتكم"، قالوا: يا رسول الله، أمن عدو حضر؟ قال: "من النار"، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهن الباقيات الصالحات رضي الله عنه إذا ذكر هذا الحديث يقول: أبو الدرداء لأهللن ولأكبرن الله ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنونا .
قوله تعالى: أفرأيت الذي كفر بآياتنا . الفاء في قوله: " أفرأيت " عاطفة بعد ألف الاستفهام، وهي عاطفة جملة على جملة، و الذي كفر يعني به العاصي بن وائل السهمي ، قاله جمهور المفسرين، وخبره أن كان قينا في الجاهلية، فعمل له عملا، واجتمع له عنده دين، فجاءه يتقاضاه، فقال له خباب بن الأرت العاصي بن وائل : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقال : لا أكفر خباب بمحمد عليه الصلاة والسلام - حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال العاصي : أو مبعوث أنا بعد الموت؟ قال : نعم، قال: فإذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد، وعند ذلك أقضيك دينك، فنزلت الآية في ذلك خباب .
وقال : نزلت الآية في الحسن الوليد بن المغيرة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقد كانت للوليد أيضا أقوال تشبه هذا الغرض.
وقرأ ، ابن كثير : "وولدا" على معنى اسم الجنس، بفتح الواو واللام، [ ص: 65 ] وكذلك في سائر ما في القرآن، إلا في سورة نوح فإنهما قرأا بضم الواو وسكون اللام. وقرأ وأبو عمرو ، نافع ، وعاصم بفتح الواو في كل القرآن، وقرأ وابن عامر ، حمزة : "وولدا" بضم الواو وسكون اللام، وكذلك في جميع القرآن، وقرأ والكسائي : "ولدا" بكسر الواو وسكون اللام، واختلف مع ضم الواو - فقال بعضهم: هو جمع ولد كأسد وأسد واحتجوا بقول الشاعر: ابن مسعود
فلقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقال بعضهم: هو مفرد، واحتجوا بقول الشاعر:فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
وقوله تعالى: أطلع الغيب توقيف، والألف للاستفهام، وحذفت في الوصل للاستغناء عنها، و "اتخاذ العهد" معناه: بالإيمان والأعمال الصالحة. و "كلا" زجر وردع، ثم أخبر تعالى أن قول هذا الكافر سيكتب، على معنى حفظه عليه ومعاقبته به، وقرأ ، عاصم : "سيكتب" بياء مضمومة، وقرأ: "سنكتب" بالنون والأعمش ، أبو [ ص: 66 ] عمرو ، والحسن . و "مد العذاب" هو إطالته وتعظيمه، وقوله تعالى: وعيسى ما يقول أي: هذه الأشياء التي سماها، وقال إنه يؤتاها في الآخرة يرث الله ما له منها في الدنيا بإهلاكه وتركه لها، فالوراثة مستعارة، ويحتمل أن يكون خيبته في الآخرة كوراثة ما أمل. وفي حرف رضي الله عنه: "ونرثه ما عنده"، وقال ابن مسعود النحاس : "ونرثه ما يقول" معناه: نحفظه عليه لنعاقبه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ، أي: حفظة ما قالوا. العلماء ورثة الأنبياء
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فكأن هذا المجرم يورث هذه المقالة. وقوله تعالى: ويأتينا فردا يتضمن ذلته.