ولما فرغ من الكلام على التخصيص أخذ في الكلام على المخصص - بكسر الصاد - وهو حقيقة : فاعل التخصيص الذي هو الإخراج ، ثم أطلق على إرادته الإخراج . لأنه إنما يخصص بالإرادة فأطلق على نفس الإرادة مخصصا ، حتى قال الرازي وأتباعه : إن حقيقة التخصيص هو الإرادة . ( ويطلق ) المخصص ( مجازا على الدليل ) الدال على الإرادة ( وهو المراد هنا ) فإنه الشائع في الأصول حتى صار حقيقة عرفية ( وهو ) أي : قسم ( منفصل ) وهو ما يستقل بنفسه بأن لم يكن مرتبطا بكلام آخر ( ومنه ) أي ومن القسم المنفصل ( الحس ) نحو قوله سبحانه وتعالى { المخصص قسمان تدمر كل شيء بأمر ربها } وقوله تعالى { يجبى إليه ثمرات كل شيء } وقوله تعالى . { وأوتيت من كل شيء } . وقوله تعالى { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } والمراد بالحس المشاهدة . ونحن نشاهد أشياء كانت حين الريح لم تدمرها ولم تجعلها كالرميم ، كالجبال ونحوها ، ونعلم أن ما في أقصى المشرق والمغرب لم تجب إليه ثمراته ، وأن أشياء كثيرة لم تؤت منها في قوله تعالى { بلقيس وأوتيت من كل شيء } . ثم هاهنا بحثان . الأول أن هذه الأمثلة : لا تتعين أن تكون من العام المخصوص بالحس ، فقد يدعى أنها من العام الذي أريد به الخصوص . الثاني : أن ما كان خارجا بالحس فقد يدعي أنه لم يدخل حتى يخرج ، كما يأتي نظيره في التخصيص بالعقل . ( و ) من التخصيص بالمنفصل أيضا ( العقل ) ضروريا كان أو نظريا . فمثال الضروري : نحو قوله تعالى { الله خالق كل شيء } فإن العقل قاض بالضرورة أنه لم يخلق نفسه تعالى وتقدس . ومثال النظري : نحو قوله تعالى ( { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ) فإن العقل بنظره اقتضى عدم دخول الطفل والمجنون بالتكليف بالحج ، لعدم فهمهما ، بل هما من جملة الغافلين الذين هم غير [ ص: 391 ] مخاطبين بخطاب التكليف . وقال البرماوي : منع كثير من العلماء أن ما خرج من الأفراد بالعقل من باب التخصيص ، وإنما العقل اقتضى عدم دخوله في لفظ العام .
وفرق بين عدم دخوله في لفظ العام ، وبين خروجه بعد أن دخل ، وهذا نص في الرسالة ، فإنه قال في باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام : إن من العام الذي لم يدخل خصوصه قوله تعالى { الشافعي الله خالق كل شيء } { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } . قال : فهذا عام لا خاص فيه ، فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك ، فإن الله تعالى خالقه ، وكل دابة فعلى الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . انتهى .
( و ) القسم الثاني من التخصيص ( متصل ) وهو ما لا يستقل بنفسه ، بل مرتبط بكلام آخر ( وهو ) أي أما الاستثناء فمأخوذ من الثني ، وهو العطف ، من قوله : ثنيت الحبل أثنيه : إذا عطفت بعضه على بعض . وقيل : من ثنيته عن الشيء : إذا صرفته عنه ( وهو ) أي الاستثناء المتصل ( إخراج ما ) أي إخراج شيء ( لولاه ) أي لولا الاستثناء ( لوجب دخوله ) أي دخول ذلك الشيء ( لغة ) أي من جهة اللغة ، قال المتصل ( أقسام ) أحدها ( استثناء متصل ) الشيخ تقي الدين : هذا قول أصحابنا والأكثرين . فعلى هذا لا يصح . فلا يقال : جاءني رجال إلا زيدا ، لاحتمال أن لا يريد المتكلم دخوله حتى يخرجه . وقيل : إن الاستثناء إخراج ما لولاه لجاز دخوله . فعلى هذا . يصح الاستثناء من النكرة . استثناء من النكرة
وسلمه القاضي . وقال وابن عقيل ابن مالك : إن وصفت النكرة صح الاستثناء منها ، وإلا فلا . وقال البرماوي : أما إذا أفاد الاستثناء من النكرة ، كاستثناء جزء مركب فيجوز ، نحو اشتريت عبدا إلا ربعه ، أو دارا إلا سقفها . فالاستثناء من النكرة إذا لم يفد لم يكن متصلا . ولا يكون منقطعا لأن شرطه أن لا يدخل في المستثنى منه قطعا . وقوله ( بإلا ) متعلق بإخراج ، يعني أن الإخراج يكون بإلا ( أو إحدى أخواتها ) أي أخوات " إلا " وأدوات الاستثناء المشهورة ثمانية ، منها : حروف باتفاق ، وهي " إلا " أو وحروف على الأصح ، وهي [ ص: 392 ] حاشا " فإنها حرف عند دائما . ويقال فيها . : حاش وحشا . ومنها ما هو فعل بالاتفاق ، كلا يكون ، أو فعل على الأصح ، وهي " ليس " . ومنها ما هو متردد بين الحرفية والفعلية بحسب الاستعمال ، فإن نصب ما بعده كان فعلا ، وإن جر ما بعده كان حرفا ، وهو " خلا " بالاتفاق ، و " عدا " عند غير سيبويه . سيبويه
ومنها ما هو اسم ، وهو " غير " و " سوى " ويقال فيه " سوى " بضم السين ، و " سواء " بفتحها والمد ، وبكسرها والمد ، سواء قلنا هو ظرف ، أو يتصرف تصرف الأسماء . ثم يشترط لصحة الاستثناء : أن يكون المستثنى والمستثنى منه صادرين من متكلم واحد ; ليخرج ما لو قال الله سبحانه وتعالى { اقتلوا المشركين } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إلا أهل الذمة } فإن ذلك استثناء منفصل لا متصل .
وقدم هذا القول في جمع الجوامع . وضعف الصفي الهندي مقابله . ولهذا قال الرافعي : لو قال زيد لعمرو لي عليك مائة ، فقال عمرو : إلا درهما ، لم يكن مقرا بما عدا المستثنى على الأصح ، وأما قول رضي الله تعالى عنه بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم { العباس } فمؤول بأن لا يختلى خلاه : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيننا وبيوتنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر أراد أن يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستثناء خشية أن يسكت عنه ، اتكالا على فهم السامع ذلك بقرينة ، وفهم منه أنه يريد استثناءه ، ولأجل ذلك أعاد النبي صلى الله عليه وسلم . الاستثناء ، فقال " إلا الإذخر " ولم يكتف باستثناء العباس وهذا يرشد إلى اعتبار كونه من متكلم واحد . إذا تقرر هذا ( فلا يصح ) العباس كما تقدم الكلام عليه في الشرح ( ولا ) يصح الاستثناء أيضا ( من غير الجنس ) نحو : جاء القوم إلا حمارا ، لأن الحمار لم يدخل في القوم ، وكذا : له عندي مائة درهم إلا دينارا ، ونحوه ، وهذا هو الصحيح من الروايتين عن الإمام الاستثناء ( من نكرة ) رضي الله عنه ، واختيار الأكثر من أصحابنا وغيرهم ، وعنه رواية ثانية بصحة استثناء أحد النقدين من الآخر ، واختلف في مأخذ هذه الرواية ، فقيل : لأن النقدين كالجنس في الأشياء ، فكذا في الاستثناء ، وقيل : إن كل واحد [ ص: 393 ] منهما يعبر به عن الآخر ، وقيل : إن القول بصحة ذلك استحسانا ، وعند أحمد مالك رضي الله عنهما : يصح والشافعي مطلقا ، لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة الاستثناء من غير الجنس العرب ، ووجه عدم صحة الاستثناء من غير الجنس الذي هو الصحيح من المذهب أن الاستثناء صرف اللفظ بحرفه عما يقتضيه لولاه . لأنه مأخوذ من الثني ، تقول : ثنيت فلانا عن رأيه ، وثنيت عنان دابتي ، ولأن الاستثناء إنما يصح لتعلقه بالأول ، لعدم استقلاله ، وإلا فيصح استثناء كل شيء من كل شيء ، لاشتراكهما في معنى عام ، ولأنه لو قال : جاء الناس إلا الكلاب وإلا الحمير ، عد قبيحا لغة وعرفا ، ولأنه تخصيص ، فلا يصح في غير داخل . وأورد عليه قوله تعالى { إلا رمزا } ، { أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } من علم إلا اتباع الظن " " من سلطان إلا أن دعوتكم " وقول العرب ما بالدار أحد إلا زيد ، وما جاءني زيد إلا عمرو .
وأجيب بأن " إلا " في ذلك : بمعنى " لكن " عند النحاة ، منهم : الزجاج ، وقال : هو من قول وابن قتيبة وهو استدراك ، ولهذا لم يأت إلا بعد نفي ، أو بعد إثبات بعد جملة ( والمراد ) من . قول المقر ( بعشرة إلا ثلاثة سبعة و ) أداة الاستثناء وهي ( إلا ) في هذا المثال ( قرينة مخصصة ) سيبويه