( وهو ) أي ( إثبات ) للمستثنى ( وبالعكس ) أي والاستثناء من أشياء منفية نفي للمستثنى . فإذا قال : له علي عشرة إلا درهما ، كان ذلك إقرارا بتسعة . وإذا قال : ليس له علي شيء إلا درهما كان مقرا بدرهم . وعلى هذا قول الجمهور من أصحابنا والمالكية والشافعية . وخالف الحنفية في كون المستثنى من الإثبات نفيا ، ومن النفي إثبات . وقالوا : في قوله له : علي عشرة إلا درهما : أنه يلزمه تسعة ، لكن من حيث إن الدرهم المخرج منفي بالأصالة ، لا من حيث إن الاستثناء من الإثبات نفي ، ولا يوجبون في : ليس له علي شيء إلا درهما شيئا ، إذ المراد إلا درهما فإني لا أحكم عليه بشيء ، ولا إقرار إلا مع حكم ثابت واستدل لقول الجمهور باللغة وأن قول القائل " لا إله إلا الله " توحيد . وتبادر فهم كل من سمع قول القائل : لا عالم إلا زيد . وليس لك علي إلا درهم إلى علمه وإقراره . قالوا : لو كان للزم من قوله عليه الصلاة والسلام . { الاستثناء الصحيح ( من نفي ) أي من أشياء منفية } و { لا صلاة إلا بطهور ثبوتها بالطهارة . ومثله لا نكاح إلا بولي } رد . لا يلزم ; لأنه استثناء من غير الجنس . وإنما سيق لبيان اشتراط الطهور للصلاة ، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط . وقال في الروضة : هذه صيغة الشرط . ومقتضاها نفيها عند نفيها . ووجودها عند وجودها ، ليس منطوقا ، بل من المفهوم ، فنفي شيء لانتفاء شيء لا يدل على إثباته عند وجوده ، بل يبقى كما قبل النطق ، بخلاف لا عالم إلا زيد . قال بعض أصحابنا : جعله المثبت من قاعدة المفهوم ليس بجيد . لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء
وكذا جعله في الفصول في قول ابن عقيل : كل شيء يباع قبل قبضه إلا [ ص: 404 ] ما كان مأكولا . وقد احتج أحمد على أن النكاح لا يفسد بفساد المهر بقوله . صلى الله عليه وسلم . { القاضي } قال : فاقتضى الظاهر صحته ، ولم يفرق . لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل
قال أصحابنا : هذه دلالة صفة . فإن قيل : فيه إشكال سوى ذلك ، وهو أن المراد النفي الأعم ، أي لا صفة للصلاة معتبرة إلا صفة الطهارة . فنفى الصفات المعتبرة وأثبت الطهارة . قيل : المراد من نفيها المبالغة في إثبات تلك الصفة ، وأيضا أكدها .
والقول بأنه استثناء منقطع فلا إشكال : قول بعيد . لأنه مفرغ فهو من تمام الكلام . ومثله : ما زيد إلا قائم ونحوه ، قال البرماوي : من أدلة الجمهور : أن " لا إله إلا الله " لو لم يكن المستثنى فيه مثبتا لم يكن كافيا في الدخول في الإيمان ، ولكنه كاف باتفاق . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { } فجعل ذلك غاية المقاتلة . وقد أجابوا بأن الإثبات معلوم ، وإنما الكفار يزعمون الشركة . فنفيت الشركة بذلك ، أو أنه وإن كان لا يفيد الإثبات بالوضع اللغوي لكن يفيده بالوضع الشرعي . فإن المقصود نفي الشريك وهو مستلزم للثبوت . فإذا قلت : لا شريك لفلان في كرمه . اقتضى أن يكون كريما . وأيضا فالقرائن تقتضي الإثبات ; لأن كل متلفظ بها ظاهر قصده إثباته واحدا لا التعطيل . ورد ذلك بأن الحكم قد علق بها بمجردها . أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله
فاقتضى ذلك أنها تدل بلفظها دون شيء زائد . قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام : كل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية . والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة ، وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد . وحصل الفهم لذلك منهم من غير احتياج لأمر زائد ، ولو كان وضع اللفظ لا يقتضي ذلك ، لكان أهم المهمات : أن يعلمنا الشارع ما يقتضيه بالوضع من الاحتياج إلى أمر آخر . فإن ذلك هو المقصود الأعظم في الإسلام . انتهى . ومن أدلة الجمهور أيضا : قوله تعالى { فلن نزيدكم إلا عذابا } وهو ظاهر . وأما أدلة الحنفية ، فمن أعظمها : أنه لو كان كذلك للزم في قوله صلى الله عليه وسلم { } أن من تطهر يكون مصليا ، أو تصح صلاته وإن فقد بقية الشروط . وجوابه : أن المستثنى مطلق يصدق [ ص: 405 ] بصورة ما لو توضأ وصلى . فيحصل الإثبات لا أنه عام ، حتى يكون كل متطهر مصليا . فهو استثناء شرط أي لا صلاة إلا بشرط الطهارة . ومعلوم : أن وجود الشرط لا يلزم منه وجود المشروط . وأيضا : فالمقصود المبالغة في هذا الشرط دون . سائر الشروط ; لأنه آكد . فكأنه لا شرط غيره ; لا أن المقصود : نفي جميع الصفات . وأيضا : فقد قيل : الاستثناء فيه منقطع . وليس الكلام فيه ، وضعفه لا صلاة إلا بطهور ، على أن هذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف ، إنما المعروف { ابن الحاجب } أخرجه لا يقبل الله صلاة بغير طهور . لكن في مسلم { ابن ماجه } ولو مثلوا بحديث { لا تقبل صلاة إلا بطهور } الثابت في الصحيحين لكان أجود ، ثم اعلم أن ما قاله الحنفية موافق لقول نحاة لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب الكوفة . وما قاله الجمهور موافق لقول . . وبقية سيبويه البصريين . ومحل الخلاف في الاستثناء المتصل ; لأنه فيه إخراج . أما المنقطع فالظاهر : أن ما بعد " إلا " فيه محكوم عليه بضد الحكم السابق . فإن مساقه هو الحكم بذلك .
فنحو . قوله تعالى . " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " المراد : أن لهم به اتباع الظن لا العلم ، وإن لم يكن الظن داخلا في العلم . وقس عليه . وحيث تقرر أن الاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ترتب عليهما تعدد الاستثناء . واعلم أن للمسألة أحوالا . أحدها : نحو له علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدا . ولاستخراج الحكم من ذلك طرق . أحدها : . وجبر الباقي بالاستثناء الثاني . فنقول : لما أخرج تسعة بالاستثناء الأول جبر ما بقي وهو واحد بالاستثناء الثاني . وهو ثمانية . طريقة الإخراج
فصار تسعة ، ثم أخرج بالاستثناء الثالث سبعة . بقي اثنان ، فجبره بالرابع وهو ستة . فصار ثمانية ، ثم أخرج بالخامس خمسة . فبقي ثلاثة . فجبر بالسادس ، وهو أربعة . فصار سبعة ، ثم أخرج بالسابع ثلاثة . فبقي أربعة . فجبر بالثامن وهو اثنان . فصار الباقي ستة . وأخرج منه بالاستثناء التاسع واحدا . فصار المقر به خمسة . الطريقة الثانية : أن تحط الآخر مما يليه ، وهكذا إلى الأول فتحط واحدا [ ص: 406 ] من اثنين ، يبقى واحد ، تحطه من ثلاثة يبقى اثنان ، تحطهما من أربعة يبقى اثنان ، تحطهما من خمسة يبقى ثلاثة تحطهما من ستة يبقى ثلاثة ، تحطها من سبعة يبقى أربعة ، تحطها من ثمانية يبقى أربعة ، تحطها من تسعة يبقى خمسة ، تحطها من عشرة يبقى المقر به خمسة . الطريقة الثالثة : أن تجعل كل وتر من الاستثناءات خارجا وكل شفع مع الأصل داخلا في الحكم . فما اجتمع فهو الحاصل . فيسقط ما اجتمع من الخارج مما اجتمع من الداخل فهو الجواب . فالعشرة والثمانية والستة والأربعة والاثنان : ثلاثون . هي المخرج منها والتسعة والسبعة والخمسة والثلاثة والواحد خمسة وعشرون : هي المخرجة . يبقى خمسة . ولهم طرق غير ذلك يطول الكتاب بذكرها . واستثنى القرافي الشرط . فقال في شرح التنقيح : قول العلماء الاستثناء من النفي إثبات ، ليس على إطلاقه ، لأن الاستثناء يقع في الأحكام ، نحو قام القوم إلا زيدا . ومن الموانع ، نحو لا تسقط الصلاة عن المرأة إلا بالحيض ، ومن الشروط ، نحو لا صلاة إلا بطهور . فالاستثناء من الشروط مستثنى من كلام العلماء . فإنه لا يلزم من القضاء بالنفي لأجل عدم الشرط أن يقضي بالوجود لأجل وجود الشرط ، لما علم من أن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم .
فقولهم : الاستثناء من النفي إثبات : مختص بما عدا الشرط ; لأنه لم يقل أحد من العلماء : إنه يلزم من وجود الشرط وجود المشروط . وبهذه القاعدة يحصل الجواب عن شبهة الحنفية ، فإن النقوض التي ألزمونا بها كلها من باب الشروط .
وهي ليست من صور النزاع فلا تلزمنا . انتهى