[ ص: 249 ] فصل [ قوة قالوا : وهذا غيض من فيض ، وقطرة من بحر ، من تناقض القياسيين الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أو أولى منه وخروجهم في القياس عن موجب القياس ، كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك ، فليوجدنا القياسيون حديثا واحدا صحيحا صريحا غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل ، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا ، فإن كان مخالفة القياس دينا فقد أريناهم مخالفته صريحا ، ثم نحن أسعد الناس بمخالفته منهم ; لأنا إنما خالفناه للنصوص ، وإن كان حقا فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ أدلة الفريقين تحتاج إلى نظر دقيق
فانظر إلى هذين البحرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما ، والحزبين اللذين قد ارتفع في معترك الحرب عجاجهما ، فجر كل منهما جيشا من الحجج لا تقوم له الجبال ، وتتضاءل له شجاعة الأبطال ، وأتى كل واحد منهما من الكتاب والسنة والآثار بما خضعت له الرقاب ، وذلت له الصعاب ، وانقاد له علم كل عالم ، ونفذ حكمه كل حاكم ، وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه ، ويحيط علما بما أصلاه وفصلاه ; فليعرف الناظر في هذا المقام قدره ، ولا يتعدى طوره ، وليعلم أن وراء سويقته بحارا طامية ، وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السهى عالية ، فإن وثق من نفسه أنه من فرسان هذا الميدان ، وجملة هؤلاء الأقران ، فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين ، ويحكم بما يرضي الله ورسوله بين هذين الحزبين ، فإن الدين كله لله ، وإن الحكم إلا لله ، ولا ينفع في هذا المقام : قاعدة المذهب كيت وكيت ، وقطع به جمهور من الأصحاب ، وتحصل لنا في المسألة كذا وكذا وجها ، وصحح هذا القول خمسة عشر ، وصحح الآخر سبعة ، وإن علا نسب علمه قال " نص عليه " فانقطع النزاع ، ولز ذلك النص في قرن الإجماع ، والله المستعان وعليه التكلان .
فصل [ القول الوسط بين الفريقين ]
قال المتوسطون بين الفريقين : قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان ، فكلاهما في الإنزال أخوان ، وفي معرفة الأحكام شقيقان ، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان ، فلا تتناقض دلالة [ ص: 250 ] النصوص الصحيحة ، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة ، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض ; فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا ، ونصوص الشارع نوعان : أخبار ، وأوامر ، فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح ، بل هي نوعان : نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة أو جملة وتفصيلا ، ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة ، فهكذا أوامره - سبحانه - نوعان : نوع يشهد به القياس والميزان ، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه ، وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح .