[ قاعدة في بيان
nindex.php?page=treesubj&link=28266متى يعمل بالظاهر ]
وها هنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها ، وهي أن الشارع إنما قبل
nindex.php?page=treesubj&link=25008توبة [ ص: 106 ] الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه ، فيجب العمل به ; لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه ، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية ، أما انتفاء القطع فظاهر ، وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه ، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه ، ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه ، وإن شهد عنده بذلك العدول ، وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها ، وكذلك لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أسن منه " هذا ابني " لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقا ، وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العدل والأمر والنهي والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليل أقوى منها يخالف ظاهرها .
وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته ، وتكذيبه واستهانته بالدين ، وقدحه فيه ; فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا ، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة ; فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته ، ولا يخفى على المنصف قوة هذا النظر وصحة هذا المأخذ ، وهذا مذهب أهل
المدينة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد ، وهو المنصور من الروايتين عن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وهو إحدى الروايات عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد نصرها كثير من أصحابه ، بل هي أنص الروايات عنه ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد أنه يستتاب ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف روايتان ; إحداهما : أنه يستتاب ، وهي الرواية الأولى عنه ، ثم قال آخرا : أقتله من غير استتابة ، لكن إن تاب قبل أن يقدر عليه قبلت توبته ، وهذا هو الرواية الثالثة عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد
ويا لله العجب ، كيف يقاوم دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع ؟ مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة ؟ ولا ينبغي لعالم قط أن يتوقف في قتل مثل هذا ، ولا تترك الأدلة القطعية لظاهر قد تبين عدم دلالته وبطلانها ، ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب .
نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوحة ، وتكرر ذلك منه ، لم يقتل كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد في إحدى الروايات وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة .
[ ص: 107 ] ومما يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=25008توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } قال السلف في هذه الآية : {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52أو بأيدينا } بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم ، وهو كما قالوا ; لأن العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل ; فلو قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زندقتهم لم يمكن المؤمنين أن يتربصوا بالزنادقة أن يصيبهم الله بأيديهم ; لأنهم كلما أرادوا أن يعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يصابوا بأيديهم قط ، والأدلة على ذلك كثيرة جدا ، وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون : نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنعين علينا بخلافها ، وبالله التوفيق .
[ قَاعِدَةٌ فِي بَيَانِ
nindex.php?page=treesubj&link=28266مَتَى يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ ]
وَهَا هُنَا قَاعِدَةٌ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، وَهِيَ أَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا قَبِلَ
nindex.php?page=treesubj&link=25008تَوْبَةَ [ ص: 106 ] الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ كُفْرِهِ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُقْتَضٍ لِحَقْنِ الدَّمِ وَالْمُعَارِضُ مُنْتَفٍ ، فَأَمَّا الزِّنْدِيقُ فَإِنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ مَا يُبِيحُ دَمَهُ ، فَإِظْهَارُهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِسْلَامُ لَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِدَمِهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً وَلَا ظَنِّيَّةً ، أَمَّا انْتِفَاءُ الْقَطْعِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ الظَّنِّ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا صَحِيحًا إذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِهِ ، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْبَاطِنِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ظَاهِرٍ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِهِ ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلَافِ عِلْمِهِ ، وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْعُدُولُ ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ إقْرَارًا عَلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ " هَذَا ابْنِي " لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَا مِيرَاثُهُ اتِّفَاقًا ، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ إنَّمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهَا إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذَا الزِّنْدِيقُ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ ، وَتَكْذِيبِهِ وَاسْتِهَانَتِهِ بِالدِّينِ ، وَقَدْحِهِ فِيهِ ; فَإِظْهَارُهُ الْإِقْرَارَ وَالتَّوْبَةَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ يُظْهِرُهُ قَبْلَ هَذَا ، وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ بَطَلَتْ دَلَالَتُهُ بِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ الزَّنْدَقَةِ ; فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِتَضَمُّنِهِ إلْغَاءَ الدَّلِيلِ الْقَوِيِّ وَإِعْمَالَ الدَّلِيلِ الضَّعِيفِ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُ دَلَالَتِهِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُنْصِفِ قُوَّةُ هَذَا النَّظَرِ وَصِحَّةُ هَذَا الْمَأْخَذِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ nindex.php?page=showalam&ids=16867وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=15124وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَهُوَ الْمَنْصُورُ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ نَصَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، بَلْ هِيَ أَنَصُّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ، وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ، وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=14954أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْهُ ، ثُمَّ قَالَ آخِرًا : أَقْتُلُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ ، لَكِنْ إنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وَهَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ
وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ ، كَيْفُ يُقَاوِمُ دَلِيلُ إظْهَارِهِ لِلْإِسْلَامِ بِلِسَانِهِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَدِلَّةَ زَنْدَقَتِهِ وَتَكَرُّرَهَا مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَإِظْهَارَهُ كُلَّ وَقْتٍ لِلِاسْتِهَانَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْقَدْحِ فِي الدِّينِ وَالطَّعْنِ فِيهِ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ ؟ مَعَ اسْتِهَانَتِهِ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ ؟ وَلَا يَنْبَغِي لِعَالِمٍ قَطُّ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي قَتْلِ مِثْلِ هَذَا ، وَلَا تُتْرَكُ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ لِظَاهِرٍ قَدْ تَبَيَّنَ عَدَمُ دَلَالَتِهِ وَبُطْلَانُهَا ، وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ عَنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ .
نَعَمْ لَوْ أَنَّهُ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى السُّلْطَانِ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحَةِ ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ ، لَمْ يُقْتَلْ كَمَا قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14954أَبُو يُوسُفَ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ .
[ ص: 107 ] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25008تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ لَا تَعْصِمُ دَمَهُ قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } قَالَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52أَوْ بِأَيْدِينَا } بِالْقَتْلِ إنْ أَظْهَرْتُمْ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا ; لِأَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَا يُبْطِنُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَتْلِ ; فَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ زَنْدَقَتُهُمْ لَمْ يُمَكِّنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَرَبَّصُوا بِالزَّنَادِقَةِ أَنْ يُصِيبَهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يُعَذِّبُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَلَمْ يُصَابُوا بِأَيْدِيهِمْ قَطُّ ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَعِنْدَ هَذَا فَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ : نَحْنُ أَسْعَدُ بِالتَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ مِنْ مُخَالِفِينَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُشَنِّعِينَ عَلَيْنَا بِخِلَافِهَا ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .