[ ص: 189 ] ] انقسام الحيلة إلى الأحكام الخمسة وأمثلتها
وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة ; فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها ; فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه ، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه ، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها ، وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم إلى مباح ومحظور ; فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب ، وترك المحرم ، وتخليص الحق ، ونصر المظلوم ، وقهر الظالم ، وعقوبة المعتدي ، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم ، وإبطال الحقوق ، وإسقاط الواجبات ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل } غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم ، وكما يذم الناس أرباب الحيل فهم يذمون أيضا العاجز الذي لا حيلة عنده لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه ، فالأول ماكر مخادع ، والثاني عاجز مفرط ، والممدوح غيرهما ، وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيها وظاهرها فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل ، ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها ، وهذه كانت حال سادات الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم كانوا أبر الناس قلوبا ، وأعلم الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع ، وأتقى لله من أن يرتكبوا منها شيئا أو يدخلوه في الدين ، كما قال رضي الله عنه : لست بخب ولا يخدعني الخب ، وكان عمر بن الخطاب أعلم الناس بالشر والفتن ، وكان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكان هو يسأله عن الشر ، والقلب السليم ليس هو الجاهل بالشر الذي لا يعرفه ، بل الذي يعرفه ولا يريده ، بل يريد الخير والبر ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى الحرب خدعة ، ولا ريب في انقسام الخداع إلى ما يحبه الله ورسوله وإلى ما يبغضه وينهى عنه ، وكذلك المكر ينقسم إلى قسمين : محمود ، ومذموم ; فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم إلى محمود ومذموم . حذيفة
فالحيل المحرمة منها ما هو كفر ، ومنها ما هو كبيرة ، ومنها ما هو صغيرة ، وغير المحرمة منها ما هو مكروه ، ومنها ما هو جائز ، ومنها ما هو مستحب ، ومنها ما هو واجب ; كفر ، ثم إنها لا تتأتى إلا على قول من يقول بتعجيل الفسخ بالردة ، فأما من وقفه على انقضاء العدة فإنها لا يتم لها غرضها حتى تنقضي عدتها ; فإنها متى علم بردتها قتلت إلا على قول من يقول : لا تقتل المرتدة ، بل يحبسها حتى تسلم أو تموت ، وكذلك فالحيلة بالردة على فسخ النكاح كفر ، والإفتاء بها كفر ، [ ص: 190 ] ولا تتم إلا على قول من يرى أن مال المرتد لبيت المال ، فأما على القول الراجح أنه لورثته من المسلمين فلا تتم الحيلة ، وهذا القول هو الصواب . التحيل بالردة على حرمان الوارث
فإن ارتداده أعظم من مرض الموت المخوف ، وهو في هذه الحال قد تعلق حق الورثة بماله ، فليس له أن يسقط هذا التعلق بتبرع ، فهكذا المرتد بردته تعلق حق الورثة بماله إذ صار مستحقا للقتل .