[ ] حيلة لتجويز وقف الإنسان على نفسه
المثال السابع والأربعون : إذا وقف على نفسه ثم على غيره صح في إحدى الروايتين عن الإمام ، وهو قول أحمد ، وعليه عمل الحنفية ، وقول بعض الشافعية ، وممن اختاره أبي يوسف أبو عبد الله الزبيري ، وعند الفقهاء الثلاثة لا يصح .
والمانعون من صحته قالوا : يمتنع كون الإنسان معطيا من نفسه لنفسه ; ولهذا لا يصح أن يبيع نفسه ولا يهب نفسه ولا يؤجر ماله من نفسه ، فكذا لا يصح وقفه على نفسه .
قال المجوزون : الوقف شبيه العتق والتحرير من حيث إنه يمتنع نقل الملك في رقبته ، ولهذا لا يفتقر إلى قبول إذا كان على غير معين اتفاقا ، ولا إذا كان على معين على أحد القولين ، وأشبه شيء به أم الولد .
وإذا كان مثل التحرير لم يكن الواقف مملكا لنفسه ، بل يكون مخرجا للملك عن نفسه ومانعا لها من التصرف في رقبته مع انتفاعه بالعين كأم الولد . وهذا إذا قلنا بانتقال رقبة الوقف إلى الله تعالى ظاهر ; فإن الواقف أخرج رقبة الوقف لله وجعل نفسه أحد المستحقين للمنفعة مدة حياته فإن لم يكن أولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم ، فهذا محض القياس .
وإن قلنا : الوقف ينتقل إلى الموقوف عليهم بطنا بعد بطن يتلقونه من الواقف فالطبقة الأولى أحد الموقوف عليهم ، ومعلوم أن أحد الشريكين إذا اشترى لنفسه أو باع من مال الشركة جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين ، فلأن يجوز أن ينقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها هو أحدها أولى ; لأنه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص إلى ملك مشترك له فيه نصيب ، بل في الشركة الملك الثاني من جنس الأول يملك به التصرف في الرقبة ، وفي الوقف ليس من جنسه فيكون أولى بالجواز .
يؤيده أنه لو وقف على جهة عامة جاز أن يكون كواحد من تلك الجهة ، كما وقف عثمان بئر رومة وجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين ، وكما يصلي المرء في المسجد الذي وقفه ، ويشرب [ ص: 290 ] من السقاية التي وقفها ، ويدفن في المقبرة التي سبلها ، أو يمر في الطريق التي فتحها ، وينتفع بالكتاب الذي وقفه ، ويجلس على البساط والحصير اللذين وقفهما ، وأمثال ذلك ، فإذا جاز للواقف أن يكون موقوفا عليه في الجهة العامة جاز مثله في الجهة الخاصة ، لاتفاقهما في المعنى ، بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين ، وهناك دخل في الوقف بشمول الاسم له .
وتقليد هذا القول خير من الحيلة الباردة التي يملك الرجل فيها ماله لمن لا تطيب له نفسه أن يعطيه درهما ثم يقفه ذلك المملك على المملك ; فإن هذه الحيلة تضمنت أمرين ، أحدهما : لا حقيقة له ، وهو انتقال الملك إلى المملك . والثاني : اشتراطه عليه أن يقف على هذا الوجه ، أو إذنه له فيه ، وهذا في المعنى توكيل [ له ] في الوقف ، كما أن اشتراطه حجر عليه في التصرف بغير الوقف ; فصار وجود هذا التمليك وعدمه سواء لم يملكه المملك ولا يمكنه وجود التصرف فيه ، ولو لم يحل لورثته أخذه ، ولو أنه أخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده إليه عد ظالما غاصبا ، ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذا كنفوذه قبله ، هذا فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك في الحكم إن قامت بينة بأنهما تواطآ على ذلك وأنه إنما وهبه إياه بشرط أن يقفه عليه أو أقر له بذلك . مات قبل وقفه
فإن قيل : فهل عندكم أحسن من هذه الحيلة ؟
قيل : نعم ، أن يقفه على الجهات التي يريد ; ويستثني غلته ومنفعته لنفسه مدة حياته أو مدة معلومة ، وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيح ، وهو مذهب فقهاء أهل الحديث ; فإنهم يجوزون أن . ويجوزون أن يقف الشيء على غيره ويستثني بعض منفعته مدة معلومة أو إلى حين موته . ويستدلون بحديث يبيع الرجل الشيء أو يهبه أو يعتق العبد ويستثني بعض منفعة ذلك مدة ، وبحديث عتق جابر أم سلمة ، وبحديث عتق سفينة صفية ، وبآثار صحاح كثيرة عن الصحابة لم يعلم فيهم من خالفها ، ولهذا القول قوة في القياس .
فإن قيل : فلو عدل إلى الحيلة الأولى فما حكمها في نفس الأمر ؟ وما حكم الموقوف عليه إذا علم بالحال ، هل يطيب له تناول الوقف أم لا ؟
قيل : لا يمنع ذلك صحة الوقف ونفوذه ، ويطيب للموقوف عليه تناول الوقف ; فإن المقصود مقصود صحيح شرعي وإن كانت الطريق إليه غير مشروعة وهذا كما إذا وسع العبد أن يتصرف لنفسه والمرأة أن تتزوج ، وفقه المسألة أن هذا الإذن والتوكيل في الوقف وإن [ ص: 291 ] حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد ، كما لو فسدت الشركة أو المضاربة لم يفسد تصرف الشريك والعامل لما تضمنه العقد الفاسد من الإذن ، بل هذا أولى من وجهين ; أحدهما : أن الاتفاق يلزمه قبل التمليك إذن صحيح ووكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما ينافيها ، وأيضا فإنما بطل عقد الهبة لكونه شرط على الموهوب له أن لا يتصرف فيه إلا بالوقف على الواهب ، ومعلوم أن التصرف في العين لا يتوقف على الملك بل يصح بالوكالة وبطريق الولاية ; فلا يلزم من إبطال الملك بطلان الإذن الذي تضمنه الشرط ; لأن الإذن مستند غير الملك . أعتق العبد أو طلق المرأة وجحد ذلك فأقام العبد أو المرأة شاهدين لم يعلما ذلك فشهدا به
فإن قيل : فإذا بطل الملك ينبغي أن يبطل التصرف الذي هو من توابعه .
قيل : لا يلزم ذلك ; لأن التصرف في مثل هذه الصورة ليس من توابع الملك الحقيقي ، وإنما هو من توابع الإذن والتوكيل .
يوضحه أن هذه الحيل التي لا حقيقة لها يجب أن تسلب الأسماء التي أعيرتها وتعطى الأسماء الحقيقية ، كما سلب منها ما يسمى بيعا ونكاحا وهدية هذه الأسماء وأعطي اسم الربا والسفاح والرشوة ; فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمى إذنا وتوكيلا ، ولا سيما فإن صحة الوكالة لا يتوقف على لفظ مخصوص ، بل تصح بكل لفظ يدل على الوكالة ; فهذه الحيلة في الحقيقة توكيل للغير في أن يقف على الموكل ; فمن اعتقد صحة وقف الإنسان على نفسه اعتقد جواز هذا الوقف ، ومن اعتقد بطلانه وبطلان الحيل المفضية إلى الباطل فإنه عنده يكون منقطع الابتداء ، وفيه من الخلاف ما هو مشهور ، فمن أبطله رأى أن الطبقة الثانية ومن بعدها تبع للأولى ، فإذا لم يصح في المتبوع ففي التابع أولى أن لا يصح ، ولأن الواقف لم يرض أن تصير الثانية إلا بعد الأولى ، فلا يجوز أن يلزم بما لم يرض به ; إذ لا بد في صحة التصرف من رضا المتصرف وموافقة الشرع ; فعلى هذا هو باق على ملك الواقف .
فإذا مات فهل يصح الوقف حينئذ ؟ يحتمل وجهين . ويكون مأخذهما ذلك ، كما لو قال : " هو وقف بعد موتي " فيصح ، أو أنه وقف معلق على شرط ، وفيه وجهان : فإن قيل بصحته كان من الثلث وفي الزائد يقف على إجازة الورثة ، وإن قيل ببطلانه كان ميراثا ، ومن رأى صحته قال : قد أمكن تصحيح تصرف العاقل الرشيد بأن يصحح الوقف ويصرفه في الحال إلى جهته التي يصح الوقف عليها ، وتلغى الجهة التي لا تصح فتجعل كالمعدومة . وقيل على هذا القول : بل تصرف مصرف الوقف المنقطع ، فإذا مات الواقف صرف مصرف الجهة الصحيحة . [ ص: 292 ] فإن قيل : فما تقولون لو سلك حيلة غير هذا كله ، وأسهل منه وأقرب ؟ وهي أن يقر أن ما في يده من العقار وقف عليه انتقل إليه من جائز الملك جائز الوقف ، ثم بعده على كذا وكذا ، فما حكم هذه الحيلة في الباطن ، وحكم من علم بها من الموقوف عليهم ؟ .
قيل : هذه الحيلة إنما قصد المتكلم بها إنشاء الوقف ، وإن أظهر أنه قصد بها الإخبار ; فهي إنشاء في الباطن إخبار في الظاهر ، فهي كمن أقر ببطلان أو عتاق ينوي به الإنشاء ، والوقف ينعقد بالصريح وبالكناية مع النية وبالفعل مع النية عند الأكثرين ، وإذا كان مقصوده الوقف على نفسه وتكلم بقوله : " هذا وقف علي " وميزه بفعله عن ملكه صار وقفا ; فإن الإقرار يصح أن يكون كناية عن الإنشاء مع النية ، فإذا قصده به صح كما أن لفظ الإنشاء يجوز أن يقصد به الإخبار ، وإذا أراد به الإخبار دين ، فكل من الأمرين صالح لاستعماله في الآخر ، فقد يقصد بالإقرار الإخبار عما مضى ، وقد يقصد به الإنشاء ، وإنما ذكر بصيغة الإخبار لغرض من الأغراض .
يوضح ذلك أن صيغ العقود قد قيل : هي إنشاءات ، وقيل : إخبارات ; والتحقيق أنها متضمنة للأمرين ; فهي إخبار عن المعاني التي في القلب ، وقصد تلك المعاني إنشاء ; فاللفظ خبر والمعنى إنشاء ، فإذا أخبر أن هذا وقف عليه وهو يعلم أن غيره لم يقفه عليه وإنما مقصوده أن يصير وقفا بهذا الإخبار فقد اجتمع لفظ الإخبار وإرادة الإنشاء ، فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن هناك ريب أنه أنشأ الوقف ، لكن لما كان لفظه إخبارا عن غير ما عناه ، والذي عناه لم ينشئ له لفظا صارت المسألة محتملة ، ونشأت الشبهة ; ولكن هذه النية مع هذا اللفظ الصالح للكناية مع الفعل الدال على الوقف يقوم مقام التكلم باللفظ الذي ينشأ به الوقف ، والله أعلم .