[ أولى ] الفائدة الثالثة والستون : عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى ، وهذا العيب أولى بالعيب ، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل ، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيبا ؟ وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز الفتاوى ؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به ، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه ، وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها ، هذا وقوله وحده حجة ، فما الظن بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الأخذ به ؟ وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله ، وهيهات أن يسوغ بلا حجة ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها ، فيقول : قال الله كذا ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، أو فعل كذا ، فيشفي السائل ، ويبلغ القائل ، وهذا كثير جدا في فتاويهم لمن تأملها ، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه ، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة ، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل . ذكر الفتوى مع دليلها
ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم ، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط ، ولا يذكر للجواب دليلا ولا مأخذا ، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل ، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه ، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يدرى ما حالهم في الفتاوى ، والله المستعان .